زوايامحليات

“نظرية الجوع”؟!

قبل أن نبدأ بتفنيد الافتراضات التي تتضمنها هذه النظرية، وتقديم البراهين المؤيدة أو التي تنقض نتائجها كلها، لابد من التأكيد على مسألة مهمة تندرج تحت مفهوم سحب البساط من تحت كل من سيحاول جر الكلام إلى الزوايا الضيقة، “مع أو ضد” أي طرف، وخاصة لجهة حالة الفقر العامة التي يتم تقديمها كبرهان لإثبات نظرية الجوع، بالاستناد إلى الواقع المعيشي، وضآلة الدخل الشهري، وانخفاض قيمة الليرة أمام العملات الأخرى، وغيرها من القضايا المعاشة، كالفوضى العارمة في الأسواق، والغلاء، وغياب الرقابة، وضعف الأداء الاقتصادي بشكل يوحي بأن الوضع بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار. ويترافق ذلك مع ماكينة فيسبوكية نشطة تروّج لنظرية الجوع، ويساهم فيها البعض بشكل مباشر وغير مباشر عبر بوستات وصور لن نقول عنها إنها مزيفة أو تتنكر للحقيقة، بل إن الكثير منها غير بريء من التحريف والاستغلال البشع والاستهداف الممنهج والمتاجرة بقضايا الناس في مجالات مختلفة.

وبالعودة إلى نظرية الجوع، التي حاول وزير المالية والكثير من المسؤولين نقضها، أو ضرب فرضياتها بطريقة غير موفقة دون محاكاة الحياة العامة من بوابة الفقر، وانتشار العديد من الظواهر السلبية، والتي لا يمكن تجاوزها أو تجاهل تداعياتها المختلفة، لابد من تصويب بعض القضايا المرتبطة بها. وهنا نتكلم عن الفترة الحالية التي لم يدخل الناس فيها بعد في ثنايا الفقر المدقع، أو الجوع بالمعنى الحرفي، كما يشاع، فالسواد الأعظم من الناس مازال يناور على خطوط ما يسمى تأمين “كفاف العيش”، أي الرضى بحالة الشبع وحسب، وعدم النوم ببطون خاوية، وهذا أول نقض لفرضية الفقر المدقع، وما يتم الترويج له عن تحوّل الحاويات إلى موائد دسمة يتسابق لنبش كنوزها الفقراء الذين باتوا – كما يتم التسويق له – يشكّلون الغالبية العظمى.

والمسألة الأخرى التي فشل في إثباتها أصحاب القرار نظراً للارتجالية والانفعالية السائدة  في خطابهم، وعدم قدرتهم على الإفصاح عن الكثير من القضايا التي تمر عبر مكاتبهم، بغض النظر إن كانت من فوق أو تحت الطاولة، تتعلق بحالة الكثير من الأسواق، سواء العقارات أو السيارات أو المطاعم التي نجدها نشطة وبقوة، وتخطت في بعض جوانبها كل الظروف، واخترقت حواجز الثراء الفاحش، وحاصرت الكلام عن الفقر والجوع داخل أقفاص تنضح بالملايين. وعلى سبيل المثال، تتكاثر المطاعم رغم كل الأزمات، كما هو حاصل على اوتستراد المزة، وفي “أبو رمانة”، ودمشق القديمة، وفي جميع المواقع (الريف والمدينة) بطريقة تثير الانتباه، سواء لناحية الانتشار أو الازدحام بالرواد قبل “تطبيق الإجراءات الاحترازية”، أو لجهة الشكوك بوجود جرم تبييض الأموال، أو الفساد الذي أنتج شريحة حديثي النعمة. وهذه الفرضية تنقض من خلال معادلات رياضية معاشية تعتمد إيجابية هذه المشاريع والأعمال “البزنس”، ودورها في تأمين فرص العمل، وبالتالي المساهمة في دعم الاقتصاد، وإيقاف مؤشرات البطالة والفقر، وبالتالي تجميد معايير الجوع، وتضييق دوائر انتشاره إلى حدوده الدنيا.

القضية الأهم، هنا، هي التي تحاكي فقط فرضية فقر موظفي القطاع العام، بالاستناد إلى قاعدة ضعف الرواتب، وغياب أية إضافات على متممات الرواتب كالتعويضات، والوجبة الغذائية، وغيرها من القضايا التي تصنف جميع المنضوين تحت هذا التوصيف الوظيفي في خانة الجوع. وطبعاً نقض هذه الفرضية يحتاج إلى إعادة توصيف للحالة الاقتصادية، وهي تحديداً الحاجة والعوز لموظفي هذا القطاع، ويمكن الاستعانة بمفهوم رياضي آخر يستند إلى متتالية “النق الوظيفي” لإخراج هذه الفئة من دائرة الجوع، خاصة أنها غير مهيأة للتعامل مع رواتبها بشكل اقتصادي، أو غير قادرة على تدبير أحوالها معاشياً.

بالنتيجة.. الأسواق العامرة التي تتوفر فيها جميع المواد وخاصة الغذائية تستبعد نظرية الجوع، وتستبعد بشكل كلي فرضياتها المنزلقة في هاوية الحقيقة المدعمة بسلسلة الأولويات الوطنية التي تحيّد جميع النظريات المتشائمة، وتعزز من حضور ملحمة “لسا الدنيا بخير”، وخطاب “السماء صافية والحياة جميلة”.. “وبكفي نق”؟!

بشير فرزان