الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نابكوف!

حسن حميد

لعلي بتُّ على قناعة، وأنا أقرأ تجارب الأدباء الكبار الذين أثّروا في الحياة الأدبية كثيراً، فصاروا مرايا لأجيال أدبية مترادفة، وفي أزمنة بعضها يطرد بعضها الآخر، أن عملاً واحداً لأديب مشهور يحجب أعمالاً أخرى قد تكون أهم وأجمل وأغنى من العمل الذي أُشتهر به، والأمثلة كثيرة.. خذوا أدباء من أزمنة بعيدة، مثل دانتي صاحب “الكوميديا الإلهية”، التي حجبت أعمالاً كثيرة له من النادر أن يذكرها أحد أو يشير إليها، وخذوا سرفانتس صاحب “دونكيشوت”.. من يذكر أعماله الأخرى في الشعر، والرواية، والمسرح. خذوا غوته الذي عرف بـ “فاوست” مع أن أعماله الأخرى على غنى كبير، وأهمية طافحة، وخذوا دوستويفسكي الذي ما إن يذكر اسمه حتى تذكر روايته “الجريمة والعقاب” مع أن أعماله الأخرى أكثر جمالاً ورواءً وأبعد في التأثير والغور. خذوا مارسيل بروست الذي اقترن اسمه بروايته “البحث عن الزمن المفقود” فحجبت بها أعماله الأخرى. خذوا عبد الرحمن منيف الذي اشتهر بروايته الكبيرة “مدن الملح” التي وارت خلفها أعماله الروائية الأخرى التي هي أعلى نيافة من مدن الملح التي مشت في الدروب الأفقية طويلاً. وخذوا سهيل إدريس الذي طارت شهرته من خلال روايته “الحي اللاتيني”، وظللت مشدوداً إليها، والحال هي كذلك حين نتحدث عن أدباء آخرين.

أقول هذا، وأنا أقرأ تجربة الأديب الروسي فلاديمير نابكوف (1899 ـ 1977)، الذي بُنيت شهرته كلها على روايته “لوليتا” التي كتبها عام 1955، وترجمت إلى أكثر من 50 لغة عالمية، وصارت من الأعمال السينمائية الشهيرة، ومازالت تطبع في مختلف بلدان العالم، بأرقام كبيرة، ويقبل عليها القراء بوصفها ثروة روحية ملأى بالبراعات الفنية، وهي كذلك حقاً. لكن قبل هذه الرواية كتب نابكوف ونشر أكثر من عشر روايات، انتقلت سريعاً بين اللغات العالمية، وقد طاف بها متحدثاً عنها في مناطق جغرافية مهمة من العالم، لأن كل رواية منها كانت حدثاً أدبياً، ومع ذلك ظلت رواية “لوليتا” القائمة في موضوعتها على علاقة حب مدهشة بين رجل أربعيني، وفتاة مراهقة لم تتجاوز سن الثانية عشرة، رواية فيها إغواء، وخيال، وحب، أشواق، وانعطافات، وجرأة، وحقول من العاطفة النادرة، ووعي مذهل للأجنحة التي تطير بها الأرواح، ونداءات مبحوحة، ومودات لا تعرفها إلا الكائنات النباتية أو المائية أو الضوئية!

نابكوف كتب في جميع أجناس الأدب، والنقد الأدبي، والسيرة الأدبية، والسيرة الحياتية، والسيرة المعنية بالأمكنة والرحلات، كما ترجم الكثير من نصوص الأدب، من أجل أن يعلو في نظر أهل الثقافة والأدب والفنون، وعلى نحو مشابه لهذه التعددية، فقد عمل في جميع أنواع العمل التي أتيحت له كي ينتشل نفسه وأسرته الصغيرة (الزوجة والابن ديمتري)، وأسرته الكبيرة (أمه المريضة) من الفقر عمل في ميناء مرسيليا (فرنسا)، وفي كروم العنب، ومغنياً في الفنادق، وأمكنة السهر، وسائقاً في سباقات السيارات، ومترجماً، وعاملاً في متاحف علوم الحيوان، وأستاذاً جامعياً.

نابكوف هو ثالث ثلاثة من الكتّاب الروس الذين ذاع صيتهم في العالم بوصفه كاتباً له رأي مضاد تجاه الثورة الاشتراكية، لكنه لم يستحوذ على جائزة نوبل مثل إيفان بونين، وبوريس باسترناك، مع أن أهميته الأدبية ذات فذاذة مدهشة. ولعل الكشّاف الأهم لسيرته الحياتية، والأدبية وما حفلتا به من الأحلام والرغبات، هو كتاب “رسائل إلى فيرا” زوجته التي عاش معها إلى وقت وفاته، وفي هذه الرسائل أسرار نابكوف الحياتية والأدبية، وآراؤه في الأدباء، والكتب، والفنون، والسياسة،.. ولهذا أقول، وبطمأنينة كبيرة، إن نابكوف الأديب والإنسان لا يعرف في الإبداع والمكانة من خلال روايته “لوليتا” التي حجبت وراءها أهمية نابكوف الحقيقية!

Hasanhamid55@yahoo.com