دراساتصحيفة البعث

جغرافية كوفيد-19 و نظام الغذاء العالمي

عناية ناصر

حذر برنامج الأغذية العالمي في أواخر شهر نيسان الماضي، مع استمرار انتشار الفيروس التاجي في جميع أنحاء العالم، من “جائحة الجوع”، ومع تأثير عمليات الإغلاق على دخول الفقراء، وتعطيل سلسلة التوريد التي تمنع وصول الغذاء إلى المستهلكين، يمكن للجوع وسوء التغذية المرتبطين بالوباء أن يوديا في نهاية المطاف بأرواح أكثر من الوباء نفسه، ومع هذا فإن فهم جغرافية الوباء وتأثيره على ضعف النظم الغذائية المختلفة أمر حاسم للاستجابة الواعية.

ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، يوجد الآن 821 مليون شخص في العالم يبيتون جوعى في كل ليلة، ويواجه 135 مليوناً آخرون مستويات أزمة مختلفة من الجوع، ويمكن لهذا العدد الأخير أن يتضاعف إلى 265 مليوناً بحلول نهاية العام بسبب فيروس كوفيد-19.

وبينما تراجع الجوع في العالم منذ سنوات، انعكس هذا الاتجاه قبل بضع سنوات، إذ بدأت مستويات انعدام الأمن الغذائي تعود للارتفاع مرة أخرى، وقد كانت الصراعات العسكرية في العديد من المناطق، وانتشار الجراد في شرق أفريقيا، من المحركات الرئيسية، وعلى هذا النحو تبرز مشاكل الأمن الغذائي المرتبطة بالفيروس التاجي بالفعل على رأس الظواهر المثيرة للقلق عالمياً.

وعند تقييم آثار انتشار فيروس كوفيد-19 على الأمن الغذائي العالمي، من المهم النظر في كيفية تأثير الوباء على إنتاجه وتوزيعه، وكذلك في تأثيره على قدرة الناس على شراء الغذاء والحصول عليه، علاوة على ذلك، يحتاج القادة وصانعو السياسات إلى فهم نمط انتشار الوباء، وعلاقة ذلك بضعف النظم الغذائية المختلفة.

لم تنتشر جائحة كوفيد -19 في أنحاء الكوكب بطريقة موحدة،على غرار الدهان الرطب الذي يلف الكرة، عوضاً عن ذلك، انتشرت الجائحة  من منشئها في ووهان في الصين إلى المراكز الحضرية الكبرى الأخرى المترابطة في العالم، ومن هناك إلى المدن الصغيرة، وأخيراً إلى المناطق الريفية، وهو نمط يُعرف بالانتشار الهرمي، وهذا ما يعني أن العالم لا يعاني من انتشار جائحة كبيرة بطريقة موحدة، ولكن من سلسلة متتابعة من التفشي المترابطة مكانياً، وهذا يعني أن سكان المدن التي تعرّضت للإصابات أولا، والتي تتصف بالغنى نسبياً، وبالترابط عالمياً بشكل عام، قد يواجهون صعوبات اقتصادية، ومشكلات غذائية مرتبطة بالوباء بطرق مختلفة عن سكان المناطق التي تأثرت بالوباء لاحقاً، وذلك لأن الانعكاسات على الأمن الغذائي نتيجة الوباء مشروطة بالنظم الاجتماعية والاقتصادية والغذائية التي تتبدى فيها، وهذا لا يعني بالضرورة أن المناطق الأكثر ثراء أو المجتمعات الصناعية أفضل حالاً، وليس لأن نقاط ضعفها مختلفة بشكل عام فحسب، فمن المرجح أن تواجه الدول الأكثر ثراء مشكلات تتعلق بإنتاج الغذاء بسبب طبيعة سلاسل التوريد الخاصة بها، وهي معقدة ومتشابكة، فيما تواجه البلدان ذات الدخل المنخفض، في الوقت ذاته، مشكلات في الحصول على الغذاء بسبب ضعف شبكات الأمان الاجتماعي فيها.

تختلف التأثيرات على الإمدادات الغذائية حسب نوع المواد الغذائية، لقد كانت محاصيل معظم الحبوب الرئيسية حول العالم جيدة العام الماضي، وكانت المخزونات وفيرة نسبياً، وكانت العمالة اللازمة لجني المحاصيل ونقلها أقل نسبياً من العمالة المطلوبة لإنتاج الأنواع الأخرى من الأغذية، لذلك، من غير المتوقع أن يشكّل نقص الحبوب مشكلة في الأشهر القادمة ما لم تلجأ بعض البلدان المنتجة الرئيسية للحبوب إلى تخزين إنتاجها، ويشمل ذلك حتى الدول منخفضة الدخل في أفريقيا.

لكن الفيروس بدأ يخلق مشكلات في إنتاج الفواكه والخضروات واللحوم في بعض مناطق العالم، لاسيما في البلدان ذات الدخل المرتفع، إذ يتم في هذه البلدان اللجوء إلى العمالة المهاجرة الموجودة في المزارع القريبة لإنتاج الفواكه والخضروات، ما يجعلها عرضة بشكل خاص لتفشي الفيروس .

وكانت مصانع تعبئة اللحوم معرّضة بشكل خاص للإصابة بالفيروس التاجي، حيث اضطرت عدد من المزارع في الولايات المتحدة وكندا إلى الإغلاق مؤخراً، وقد أدى تركيز صناعة اللحوم بأيدي بعض الشركات إلى تفاقم المشكلة، ورغم وجود عدد أقل من المزارع، ولكن أكبر بكثير، ووجود عمال أكثر تباعداً، إلا أن مئات العمال أصيبوا في بعض المنشآت، ما أدى إلى خسائر كبيرة في إنتاج الغذاء.

 

إنتاج الغذاء

تختلف تأثيرات فيروس كوفيد-19 على إنتاج الغذاء في البلدان منخفضة الدخل عن نظيرتها في البلدان مرتفعة الدخل، فالإنتاج للاستهلاك المنزلي أو للأسواق المحلية، لايزال واسع الانتشار في بعض المناطق الاستوائية من العالم، مع وجود سلاسل إمداد أقصر وإنتاج أكثر تنوعاً، ويمكن القول، وأخطاء أقل، أحد أشكال هذا الإنتاج الأكثر محلية الزراعة الحضرية وشبه الحضرية الصغيرة التي تزود العديد من البلدان الفقيرة بعدد كبير من منتجاتها الطازجة.

كذلك تلعب المرأة أيضاً دوراً محورياً بوصفها منتجة للأغذية في العديد من المناطق الاستوائية، إذ تنتج، على سبيل المثال، 70% من الأغذية المنتجة في أفريقيا، والنساء هن أيضاً مقدمات للرعاية الرئيسية في العديد من هذه المجتمعات، ما يعني أنهن أكثر عرضة للفيروس، بما يحمله ذلك من آثار سلبية على إنتاج الغذاء، ورعاية الأطفال وتغذيتهم.

 

الوصول إلى الغذاء

شكّلت عمليات الإغلاق المرتبطة بفيروس كوفيد-19 تحدياً كبيراً، لاسيما للشرائح الأكثر فقراً في المناطق الحضرية في البلدان منخفضة الدخل، لأن هؤلاء السكان يعتمدون على الأعمال العرضية ونشاط السوق غير الرسمي لكسب المال الذي يحتاجونه لشراء الطعام، إضافة إلى أن الكثير من البلدان منخفضة الدخل لا تستطيع توفير شبكة أمان اجتماعية قوية لسكانها، من حيث توفير دخل بديل، أو توفير الغذاء بشكل مباشر أثناء الإغلاق، وقد أدى ذلك إلى الهجرة العكسية من المدينة إلى الريف في بعض البلدان مثل الهند، حيث يعود العمال العاطلون عن العمل إلى المناطق الريفية بحثاً عن فرص عمل أفضل للحصول على الغذاء، وفي حين أن هذا الأمر يبدو منطقياً للأفراد، إلا أن مثل هذه التحركات الكبيرة للناس قد تنشر المرض في المناطق الريفية.

 

الطريق إلى الأمام

يحتاج العالم لمعالجة مشكلات إنتاج الغذاء والحصول عليه إلى نظام غذائي أكثر لامركزية، فتركيز مسألة الغذاء بأيدي عدد من الشركات، وخاصة في البلدان الأكثر ثراء، جعل النظام الغذائي أكثر عرضة لتفشي الآفات والأمراض، وتعتبر المزارع الكبيرة التي لا تستخدم أساليب المكننة الزراعية إلا في نطاق ضيق أقل قابلية للتكيف مع ظروف السوق المتغيرة، وهي تقوم على القوى العاملة بشكل مكثف، وتتسم بأحادية الثقافة، ما يجعلها أكثر عرضة للإصابة بالأمراض، إضافة لذلك فإن التوجه نحو منشآت لإعداد الأغذية أقل عدداً وأكبر حجماً يقود إلى اختناقات في النظام الغذائي، ذلك أن تعطل أحد هذه المصانع قد يؤدي إلى تدهور كبير في إنتاج الغذاء.

إن من شأن السياسات التي تشجع على عدم تركيز الصناعات الغذائية أن تجعل النظم الغذائية أقل تعرّضاً للإصابة بالأمراض، تضاف إلى ذلك فائدة تتمثّل في كون إنتاج الغذاء محلياً أفضل للبيئة في البلدان منخفضة الدخل.

يجب على المانحين وشركائهم من القطاع الخاص أيضاً أن يكرّسوا جهودهم لإدماج صغار المزارعين في نظام الغذاء العالمي، إذ يجب تشجيع صغار المزارعين الذين غالباً ما يكون إنتاجهم مكرّساً للاستهلاك المنزلي أو المحلي على استخدام المزيد من المدخلات المشتراة، مثل البذور والأسمدة والمبيدات الحشرية، وتشجيعهم لإنتاج المزيد للأسواق الإقليمية والعالمية، لكن هذا لم يؤد على وجه العموم إلى تحسينات في الأمن الغذائي، وجعل إنتاج الغذاء أكثر تعرّضاً للخطورة بسبب الديون التي تكون الفرص مهيأة لزيادتها، وبسبب تقلبات أسعار السوق.

ورغم ما يبدو أنه واقع سيىء الآن فإن التأثيرات السلبية لفيروس كوفيد -19على الأمن الغذائي العالمي لن تتعمق إلا إذا ازداد انتشار الوباء بشكل أكبر في البلدان الفقيرة، وستنعكس هذه التأثيرات سلباً، مؤدية إلى تفاقم أزمة الغذاء الحالية، ما سيزيد من الجوع بأشكال لم نرها منذ عقود عدة، ولذلك على المجتمع الدولي أن يستجيب بسرعة وبسخاء لمواجهة المد المتزايد للجوع عالمياً.

ومع ازدياد النزعة القومية الاقتصادية، ورهاب الأجانب في بعض البلدان الغنية، سيكون من الصعب توفير دعم سياسي لتوفير مساعدة خارجية سخية، واتباع نهج متعدد الأطراف لمواجهة الجوع عالمياً، ولكن إذا لم يتجاوب السياسيون مع الحجة الأخلاقية التي تقول إن الحق في الغذاء هو حق أساسي من حقوق الإنسان، فمن المؤكد أن عليهم أن يدركوا أن مصلحتهم الذاتية تقتضي الدفاع عن أمن غذائي عالمي أكبر، وقبل كل شيء فإن انتشار الجوع يولّد عدم الاستقرار والصراعات، وهذا ليس في مصلحة أحد.