الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

وداعاً.. شاكر مطلق

عبد الكريم النّاعم

في اليوم الذي انتهى فيه شهر رمضان لهذا العام، انطفأت شعلة حياة صديق من ذلك الرّعيل،.. الرعيل الذي غاب معظم أبنائه، وثمّة مَن ينتظر، بعد أن عانى من ذلك المرض أكثر من سنتين، وهو يجالد آلامه، ويُقاوم أعراض مرضه بمتابعة أيام الحياة، ولم يغب عن نشاط أدبيّ في اتحاد الكتّاب العرب دُعي إليه، رغم ضعف جسمه، والذي هو جسم نحيل أصلاً، بل وساهم في بعض النشاطات.

أصدر شاكر مطلق ديوانه الشعريّ الأوّل وهو في نهاية المرحلة الثانويّة، وغادر حمص إلى ألمانيا الغربيّة (آنذاك) ليتخرّج طبيبا مختصّا بأمراض العين وجراحتها، وكان طبيبا بارزاً في هذا المجال.

تدخل عيادته فليلفتك أنّ ثمّة لمسات فنيّة، من لوحات زيتيّة، ورسوم، موزّعة بحسّ فنيّ، وملصقات لفصائل المقاومة، فإذا دخلتَ عيادته طالعتْك، فيما يطالعك “عينيّة ابن سينا” (هبطتْ إليكَ من المَحلِّ الأرفعِ) وقد كُتبتْ بخطّ خطّاط زيّنها بألوان لطيفة لافتة، وثمّة تماثيل أثريّة صغيرة، مُزدحمة قليلا، موزّعة بطريقة تدفع للتساؤل أأنا في عيادة طبيب أم في معرض أثريّ، فقد كان، رحمه الله، من المهتمّين بالآثار، وله خبرة المختصّين بالأختام الفخاريّة القديمة، كما كان لديه عدد من هذه الأختام، يُريكها ويشرح خصائصها، ومعرفته بالآثار تكاد تقول لك إنّك أمام باحث أثري، يعزّز ذلك ما تراه في بيته، ففيه من الآثار ما يلفت.

صدر له العديد من الدواوين الشعريّة، وكان يتحرّك في فضائها بين عوالم أنكيدو، وحضارة الطين في هذه البقعة العربيّة الجغرافية الممتدّة بين بلاد الشام والعراق، و..عوالم التساؤلات عن البداية، وعن المصير، يطرح ما يحمله دون ضجيج أو صخب، يُجريه كما تجري المياه في مساربها.

بظنّي أنّ أوّل مَن كتب في سوريّة عن شعر الهايكو الياباني، وتحدّث عن خصائصه البنائيّة والإيقاعية، ورمزيّته، وترجم قصائده، هو شاعرنا الراحل، وكان ذلك بعد زيارته لليابان.

ترجم العديد من الكتب، وبحسب ما سمعتُه منه، هاتفيّاً، أنّ أهمّ ترجماته، -وكان هذا قبل رحيله بشهر تقريبا، وكنّا على تواصل.. أهمّها تاريخ الأدب الألماني الذي صدر في القاهرة هذا العام، وقد رحب به أدباء ومفكرو مصر، وهو في جزأين، ويقع في ألف صفحة، كما أذكر، ولم تصله منه إلاّ نسختان، بحسب ما ذكر.

معظم الأدباء والباحثين الذين دُعوا إلى حمص، وأقاموا فيها ولو ليوم واحد كانوا يغادرونها وقد تواشجت علاقة صداقة بينهم وبين الدكتور شاكر مطلق.

يوم عيد الشعر العالمي، الذي يحتفي به اتحاد الكتاب العرب بفروعه.. هذا اليوم حوّله شاكر مطلق إلى تقليد، ففيه تمتلئ عيادته بالشعراء المدعوّين، ويكون قد أعدّ ما يلزم لمثل هذا اللقاء، فتتحوّل الجلسة إلى جلسة سمر، وثقافة، وألوان من أحاديث الأدباء.

ما أن يصعد المنبر المدعوّ إليه، حتى يخلع ساعة يده، ويضعها أمامه، فهو يحدّد عدد الدقائق التي سيقرأ فيها، وإذا كانت الأمسية شعريّة، فإنّه يردّد: “أحيّيكم تحيّة الشعر الخالد”.

أنشأ “دار الذاكرة” للطباعة والنشر، ونشر فيها العديد من الكتب، لأدباء من حمص ومن غيرها، ولكنّ عدم صدق الموزّعين، وأحدهم صاحب دار نشر، لم يكونوا صادقين في تعاملهم مع ذلك الطفل الذي اسمه شاكر مطلق، فاضطرّ لإغلاقها لاحقا، وما كانت غايته الربح، بل تغطية النفقات لا أكثر.

تجلس إليه فتكاد تحار هل أنت أمام طفل يلهو ببراءة، أم أمام رجل عتّقتْه السنوات، والارتحال عبر التاريخ القديم جدا، أم أمام عالم بالآثار، أم أمام طبيب عيون،  أم أمام عروبيّ تقدّمي يساريّ لا يعرف المهادنة، أم أمام من خَبّأ بعض ما يروق له من مطالعات رشحات صوفيّة فنيّة ، تتفصّل متخفّية بين طيات السطور؟!!

رحم الله شاعرنا وباحثنا ومترجمنا الراحل، فهذا الجيل يرتحل كلّ مدّة واحد منه، ممّا يؤذن بأفول غياب أجسادهم، وبقاء ما تركوه من كتابات…

aaalnaem@gmail.com