ثقافةصحيفة البعث

النص عابر الأجناس

محمد راتب الحلاق

هل بدأنا نفقد التمييز الحاسم بين النثر والشعر؟ بل بين الأجناس الأدبية المتعارف عليها؟ وهل فقد القول: النثر نثر والشعر شعر دقته، شيئاً فشيئاً، ابتداءً من تخلّق أنماط من الكتابة في رحم النثر؟ هذه الأنماط التي حملت بعد ذلك اسم الأجناس الأدبية “النثرية” كالخاطرة والمقالة والقصة القصيرة والرواية، ولاسيما بعد أن أخذ الشعر شكلاً مغايراً لم يكن مألوفاً من قبل، وأعني شعر التفعيلة، ثم ما يسمى بقصيدة النثر.‏

وعدم الفصل الحاسم بين ما هو شعر وما هو نثر، نتيجة إصرار بعض الكتاب على وصف نصوصهم بالشعر، دفع بعض النقاد إلى استعارة مصطلح “الشعرية” من الفيلسوف والناقد هيدجر، واستخدموه في غير موضعه الصحيح في كثير من الحالات، للإشارة إلى الأساليب النثرية ذات المستوى الفني العالي، ولاسيما التعبير بالصورة، والتعبير بالتلميح (وبالوما!!)، التي تكتب بها بعض الأجناس الأدبية النثرية (القصة، الرواية، الخاطرة..)، بل إن بعض كتّاب تلك الأجناس قد تمادوا في العناية بلغتهم متكئين على استراتيجيات الشعر في التعبير، على حساب تقنيات الجنس الأدبي الذي يكتبون فيه، وعلى حساب ضوابطه المستقرة والمتعارف عليها.. وهكذا وجد المتلقي نفسه أمام نصوص لا أقول هجينة وإنما مختلفة عن أي جنس أدبي معروف، نصوص سماها بعض النقاد نصوصاً شاملة، وسماها الناقد المصري المرحوم ادوار الخراط “النصوص عابرة النوعية”. وأزعم، وقد أكون مخطئاً، أن هذه النصوص إما أنها لا شيء، ولا تزيد عن العبث اللغوي غير المنضبط ضمن حدود جنس أدبي معين، وإما أنها – وهذا ما أرجحه – جنس أدبي جديد مازال يبحث عن هويته وشرعيته الفنية.‏

أرجو ألاّ يفهم أحد من كلامي أنني ضد جماليات الأسلوب في الأجناس الأدبية النثرية، بل أنا ضد الذين يستكثرون على النثر أن يكون جميلاً وجليلاً ومدهشاً، فتراهم كلما وجدوا شيئاً من ذلك في نص نثري سارعوا إلى نسبته إلى الشعر، من دون أن ينتبهوا إلى أن كلامهم يضمر ازدراءً للنثر وحطاً من قيمته وقدرته. وأقصد بالكلام الجميل – ويقصدون – الكلام الذي يستخدم استراتيجية الشعر في التعبير دون أن يحوز على المقومات التي تميز الشعر من اللاشعر. وتتمثل استراتيجية الشعر، إلى جانب أمور أخرى، بالاقتصاد اللغوي، وتجنب المباشرة الفجة، وحضور الكاتب بقوة في نصه، وامتلاكه رؤية (ورؤيا) أصيلة.

وللحقيقة، أشير إلى أن التأثير لم يكن من الشعر باتجاه الأجناس الأخرى فقط، وإنما كان من الأجناس النثرية باتجاه الشعر أيضاً، فكثير من الشعراء فتنهم السرد، وأغوتهم مفردات الحياة اليومية، التي كانت شبه محرمة على الشعر، لأنها، في زعم النقاد والشعراء في مرحلة ما، تثقل كاهل الشعر، وتخفف من توتره، وتغرقه في الجزئيات والتفاصيل التي من طبيعته أن يتنزه عنها.‏

هذا التفاعل بين الأجناس الأدبية المختلفة من سمات الأدب الحديث، سواء أكان ذلك نتيجة التطور الذاتي، أم نتيجة المثاقفة مع آداب اللغات الأخرى، وهو من الأمور المقبولة شرط أن يبقى الشعر شعراً والقصة قصة والرواية رواية والخاطرة خاطرة. أما ما يسمى بالنص الشامل، أو النص عابر الأجناس، أو النص السردي التعبيري، فجنس أدبي جديد قائم بذاته، أما نسبته إلى أجناس أدبية قائمة فنوع من القصور وضرب من اللامعقول.‏