دراساتصحيفة البعث

في ذكرى النكسة.. استهانة عربية شجعت على العدوان…

د. معن منيف سليمان

كان لنكسة حزيران عام 1967 أهمية خاصة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، حيث تمكنت “إسرائيل” من تحقيق انتصارات عسكرية على الجيوش العربية، واحتلال مساحات واسعة من الأراضي العربية المجاورة، وخلق مشكلات اقتصادية وبشرية حادة ومعقدة فيها. وكشفت في الوقت نفسه عن استهانة العرب بالاستعداد لمواجهة العدو، وعدم دراسة واقعه وخططه بالجدية المطلوبة. و أبرزت النكسة بوضوح خطر التجزئة الذي مازال العرب يغرقون فيه، وبعدهم المأساوي عن وضع خطط عملية موحدة لخدمة الأهداف القومية العربية المشتركة.

ففي مطلع عام 1967 كانت جميع الظروف الدولية والعربية والصهيونية موائمة لقيام حرب شاملة ضد الأقطار العربية المجاورة للكيان الإسرائيلي، وخاصة سورية، التي قاومت “إسرائيل” واعتداءاتها المتكررة على الحدود، حيث شرعت هذه الأخيرة بتنفيذ مشروعات تحويل المياه العربية، وفي الوقت نفسه أخذت تنتهز الفرصة المناسبة أيضاً لضرب مصر وقيادتها السياسية التي شغلت دوراً رئيساً في تجميع الحشد العربي في مؤتمرات القمة ضد الكيان الصهيوني ومشروعاته، وحاولت التغلب على الخلافات بين قيادتي القطرين السوري والمصري التي توجت بتوقيع اتفاق دفاع مشترك بين البلدين، وتبادل الزيارات الرسمية بينهما، حيث أخذ الطرفان ينهجان نهجاً أكثر وطنية وتقدمية في معركة البناء الداخلي ضد قوى الرجعية والبرجوازية، وفي إطار علاقاتهما الخارجية أيضاً، بمزيد من توطيد العلاقات مع الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، والابتعاد عن المعسكر الامبريالي، خاصة الولايات المتحدة وألمانيا الغربية. هذا المعسكر الذي أخذ يدعم بصورة واضحة الكيان الصهيوني في كافة المجالات ويشجعه على توجيه ضربته القوية ضد هذين القطرين وقيادتهما القومية.

كانت القوات المسلحة الإسرائيلية قد استكملت استعداداتها للحرب وشكّلت قواها الضاربة، التي أصبح المجال أمامها مفتوحاً لشنّ حرب خاطفة ضد أيّة دولة عربية أو أكثر، وبما أن سورية كانت الدولة العربية الوحيدة التي بدأت بتنفيذ مشروعات تحويل المياه العربية، كما أنها كانت تشجع وتدعم العمل الفدائي، فإن “إسرائيل” استهدفت سورية، وأخذت تركز اعتداءاتها وتصريحاتها العدوانية ضدها، فشنّت في تموز عام 1966 هجوماً كبيراً على منشآت التحويل في سورية. كما قامت بعدوان واسع النطاق ضد قرية “السموع” قرب “الخليل”  بذريعة القضاء على الفدائيين الفلسطينيين.

ومع بداية شهر آذار تصاعد التوتر، وبدأت الحشود الإسرائيلية على الجبهة، وتحدث رئيس أركان الجيش الصهيوني “إسحق رابين” في 12 آذار عام 1967، صراحة عن احتمال غزو سورية واحتلال دمشق وإسقاط النظام الحاكم فيها. ونفّذ العدو عدة اعتداءات ردّ عليها الجانب السوري، وكان أكثرها استفزازاً في أوائل نيسان عام 1967، حيث حلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية فوق ضواحي دمشق.

لم تحقق الاعتداءات الإسرائيلية هدفها، ما استدعى المزيد من التنسيق الاستراتيجي والسياسي مع مسؤولين أمريكيين بغرض توجيه ضربة قوية لقيادتي سورية ومصر، ولاسيما بعد شعور أمريكا وحلفائها بالتدهور الذي يشهده نفوذهم لدى هذين البلدين، وما يمكن أن ينتج عن ذلك مستقبلاً في المنطقة.

دفعت التهديدات والاعتداءات الصهيونية مصر إلى حشد قواتها وطلب سحب “قوات الطوارئ الدولية” الموجودة على الحدود المصرية وتجميعها في قطاع غزة، وذلك بحكم التزاماتها الدفاعية مع سورية. وتسارع تطور الأحداث آنذاك حينما تمّ إغلاق مضيق خليج العقبة في 23 أيار عام 1967 بوجه الملاحة الإسرائيلية. فعمدت “إسرائيل” وحليفتها أمريكا إلى إثارة أزمة سياسية دولية نتيجة لإغلاق مصر خليج العقبة، وعدته خرقاً للتعهدات الدولية.

وفي 30 أيار تشكلت في “إسرائيل” حكومة ضمت أحزاب المعارضة كلها باستثناء الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وبدأت المؤسسة العسكرية الحاكمة تواصل ضغطها على حكومة “أشكول” للبدء بشن الحرب مستغلة عقد معاهدة دفاع مشترك بين الأردن ومصر في اليوم نفسه، وأصبح “موشي ديان” وزيراً للحرب وكان من قادة المعارضة البارزين، كما دخل “مناحيم بيغن” الحكومة أيضاً.

وفي صباح يوم الخامس من حزيران عام 1967، بدأت “إسرائيل” هجومها الشامل على مصر وسورية والأردن، في الوقت الذي كان فيه نائب الرئيس المصري في الولايات المتحدة للبحث في الحل السياسي للأزمة، استجابة لدعوة الرئيس الأمريكي “جونسون”، ما يشير إلى الدور الدبلوماسي الأمريكي المخادع ووقوفها إلى جانب حليفتها “إسرائيل” لتنفيذ العدوان.

دامت الحرب حتى يوم الحادي العاشر من حزيران عام 1967، ضمنت فيها “إسرائيل” لنفسها تفوقاً جوياً كبيراً، وتعبئة عسكرية مكثفة ومرنة، واستعداداً ضخماً، لم يواجهه في الجانب العربي ما يوازيه أو يقاربه حتى في حدود معقولة. وانتهت الحرب بعد توجيه ضربة عسكرية قوية لجيوش ثلاث دول عربية (سورية، مصر، الأردن) واحتلال العدو الصهيوني لقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وكامل الضفة الغربية لنهر الأردن وجزء من هضبة الجولان السورية. وهذا ما زاد في مساحة الأراضي المحتلة، وضمن للعدو حدوداً أكثر أمناً من ذي قبل تشمل حقولاً للنفط وأماكن سياحية ومقدسة كالقدس القديمة وبيت لحم وأريحا.

أدانت هيئة الأمم المتحدة العدوان الإسرائيلي خلال شهر حزيران نحو أربعين مرة ولم يكن لأي من هذه الإدانات أقل تأثير عليها، فعالج مجلس الأمن والجمعية العامة خلال شهري حزيران وتموز عدداً من المشكلات التي نجمت عن عدوان حزيران، كان أهمها: النظر في القرار الإسرائيلي بشأن ضم القدس القديمة، ثم معالجة مشكلة النازحين العرب الجدد.

أذهلت الهزيمة العرب وقرروا تجاوز آثارها السلبية من خلال العمل على بناء القوى العسكرية وتدعيمها وكان انعقاد مؤتمر القمة العربي في الخرطوم ما بين 29 – 31 آب عام 1967 الذي تقرر فيه تضافر الجهود وتوحيدها لإزالة آثار العدوان واسترداد الأراضي المحتلة وعدم الصلح مع “إسرائيل” أو الاعتراف بها، وعدم التفاوض معها، والتمسك بحق الشعب الفلسطيني في وطنه.

أدان الاتحاد السوفييتي العدوان، وكان موقفه صريحاً وواضحاً، حيث أخذ يعمل على دعم العرب إلى درجة قطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”، ثم أخذ يعمل على مساعدة مصر وسورية على إعادة بناء قدراتهما العسكرية تعويضاً عما فقداه في الحرب، كما عمل على دعم المقاومة الفلسطينية التي تصاعد دورها بعد الحرب. وإلى جانب ذلك، استمر دعم السوفييت في الدعوة إلى التسوية السلمية للصراع مشيرين في هذا إلى القرار رقم /242/ الذي أصدره مجلس الأمن في 22/11/1967، الذي قبلته مصر والأردن، وكان مفهوم السوفييت لهذا القرار متفقاً مع المفهوم العربي له، والذي يعني الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة في حزيران 1967.

كذلك كانت مواقف دول المنظومة الاشتراكية التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع “إسرائيل” باستثناء رومانيا، وأدانت العدوان، وطالبت بانسحاب “إسرائيل” إلى حدود ما قبل حرب حزيران.

كما أدانت دول عدم الانحياز ومجموعة الدول الأفريقية ـ الآسيوية العدوان وأيدت العرب في استرداد حقوقهم. وتراجعت كذلك علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع “إسرائيل”.

أما بالنسبة لموقف الولايات المتحدة – زعيمة الدول الامبريالية – فقد كان العدوان بمثابة مرحلة جديدة للتأكيد على التحالف الاستراتيجي مع “إسرائيل”، فقد أرادت أمريكا أن تكون حليفتها اليد الأمريكية الضاربة في الشرق الأوسط، استغلت “إسرائيل” هذا التحالف بشكل جيد، لضمان نهوضها العسكري وتفوقها على الدول العربية من خلال الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي اللامحدود الذي أخذت تقدمه أمريكا. وكذلك كانت مواقف الدول الامبريالية الأخرى وخاصة ألمانيا الغربية.

وعلى كل حال توقف إطلاق النار تنفيذاً لعدة قرارات أصدرها مجلس الأمن الذي اجتمع عدة جلسات بين 5 – 11 حزيران لمعالجة الموقف، وتم التوصل إلى وقف إطلاق النار دون الحديث عن الانسحاب إلى المواقع التي بدء منها القتال، وأخيراً وبعد مناورات دبلوماسية واسعة وطويلة جرى تمرير المشروع البريطاني للتسوية بصياغته الغامضة والمرنة والمتوازية (الانسحاب من أراضٍ محتلة، وليس الأراضي المحتلة) والتي تجمع بين متطلبات وتناقضات الأطراف المتنازعة كافة وبما يجعله عرضة للكثير من التفسيرات المتناقضة، والذي عرف بالقرار /242/ الشهير في 22 تشرين الثاني عام 1967. واعتبر من ذلك الوقت، من قبل أطراف عديدة أساساً لبحث موضوع تسوية النزاع القائم بين الكيان الإسرائيلي والدول العربية ضحية العدوان.

وافقت كل من مصر والأردن على القرار، وقبلته أيضاً “إسرائيل” وهذا يعني بدء الخطوة الأولى والحاسمة على طريق التراجعات العربية الرسمية عن مقررات مؤتمر الخرطوم العلنية (اللاءات الثلاث: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف). وكانت بداية التنازلات من مصر عندما وافقت على مرور السفن الإسرائيلية في قناة السويس، وإقامة مناطق منزوعة السلاح على طرفي الحدود بين البلدين، ومنذ ذلك الوقت توالت التنازلات الرسمية لبعض الأقطار العربية لجعل الموقف العربي منسجماً مع متطلبات قرار مجلس الأمن، في حين عارضته الثورة الفلسطينية لأنه لم يذكر شيئاً عن الشعب الفلسطيني وحقوقه أو مصيره.

لقد كشفت حرب حزيران عن حقيقة المصير العربي، وأهمية الوحدة العربية، وأخذت تظهر في الأفق فكرة وحدة الصف العربي والتنسيق بين الدول العربية ودعم العمل الفدائي، والتأكيد للجميع أن التوحيد القومي حتمية تاريخية تمليها حقيقة القومية العربية ووحدة المصير العربي وأن كان الطريق صعباً.

وكشفت الحرب أن الأنظمة الرجعية التي دفعت إلى هزيمة عام 1948 ما زال بعضها حياً ويؤدي دوره الوظيفي بأسلوب جديد، بل بأسلوب أكثر خطراً من السابق، ما يفرض على حركات التحرر العربية التضامن والتلاحم للخلاص من تلك الأنظمة العفنة التي مازالت تعمل على الوتيرة نفسها حتى يومنا هذا.

إن الموقف القومي الفعلي الموحد، والمتحرر من جميع أشكال التبعية الأجنبية، هو السبيل الوحيد لتمكين الأقطار العربية من مواجهة الخطر الصهيوني واسترداد الحق العربي المغتصب، والنهوض بالأمة العربية.