ثقافةصحيفة البعث

في المشهد الثقافي.. ما بعد كورونا ليس كما قبلها!

 

أحمد علي هلال

لا يختلف اثنان على القول بأن جائحة كورونا ستترك آثاراً بعيدة في السلوك وأنماط التفكير قبل غيرها من الآثار الأخرى. والحال أن المشهد الثقافي ليس ببعيد عن ذلك كله، سواء ما انعكس منه على أشكال الأداء الإبداعي وتغير وظائفه وخطاباته وطرائقه ومكوناته، وصولاً إلى خصوبته، أو ما تصادى منه في ذاكرة الكتابة الجديدة التي ستظل إلى وقت قريب في مهب انتظار ما يسفر عنها، وما تشي به من فرائض التحديث في البنى والأنساق الجديدة، لاسيما في مؤسسة الكتابة والإبداع إن جاز التعبير، ما نعنيه هنا سيتصل اتصالاً وثيقاً بما يمكن تسميته بالكثافة والسيولة والاقتصاد، والتخصص الذي لا يدع معه مجالاً للشك بأنه ما لم تتغير منظومة التفكير أولاً لا تتغير بالمقابل آليات الكتابة واشتغالاتها، وصولاً إلى القيمة والفائدة والتجاوز، وليس استهلاك ما هو قار في الذاكرة الإبداعية، فالمتغير هو الثابت أيضاً في العملية الإبداعية، بمعنى النوع وليس الكم، وبمعنى آخر توظيف اللغة لا هدر كثافتها الجمالية، إذ اللغة في هذا السياق هي وعاء وحامل ورافعة ليس إلا، ارتباطاً بوظيفتها الانتباهية والتصويرية والتعبيرية، وتركيزاً لتقنياتها وجوازات اشتغالها وتكنيكها الذي يلهم بكشوفه الجمالية، ولا يعيد إنتاجاً سائداً بعينه بذريعة أقلها نضوب الخيال كما المخيلة، فما شهدناه أصبح أكثر تحفيزاً للخيال، بل هو الخيال المضاعف الذي تجاوز الواقع بتسارع مدهش، ومعه ربما ستتغير إيقاعات الكتابة بأجناسها وفنونها المختلفة، عودة إلى الصورة ومدى قدرتها على أن تحاكي الخيال، أو تضمر تعبير الرؤية، تلك أسئلة سيُعنى بها الأدب الجديد المفارق لأزمنة لا أزمنة لها، توسلاً للحظة مفارقة تناهض التماثل وتقصيه، وتذهب بقلق فاعل لإنتاج كتابة لها زمنها المختلف، وذلك ما سيحيلنا بالضرورة إلى تصورات نقدية مختلفة ليس دأبها فحسب أن تحايث المكتوب والملفوظ، بقدر ما تنسق إشاراته الجديدة، وتنجز فيها خطاباً متسقاً يواسي الذائقة المتطلبة، ويعاين مشهداً بمعناه الثقافي ارتقاء وصحواً جديداً، ذلك أن الأنواع الأدبية المختلفة ستفترض سياقات جديدة، وذلك في احتمالات الجمال وممكناته الطليقة، الجمال الأثيري مثل طلقة الصباح وبكوريته، وإيقاع الماء ودهشته حينما يحفر جداوله البعيدة /القصية، ليشي للروح بمراياها وتشكيلها بتنوع المقامات، وانخطافات الألوان والأصوات، تماماً مثل اوركسترا بديعة، كل جزء فيها يمنح فرادة، لكنها تكتمل بإيقاعها الكلي، تلك خلاصة غير منتهية لمشهد مأمول نعيد به تأصيل فهمنا للثقافة باتساع أقانيمها، بحثاً عن عمق ضروري يرتقي بصنّاع الفرح والحياة، وبأداء مبدعين خلّاقين يخترقون أزمنتهم بالأدب النبيل، لا بميراث التشاؤم، واستنبات العدم المحيق بالكلمة بوصفها روحاً.

عرّابو الاختلاف الاستثنائي والضروري، بُناة الأرواح التي أُنهكت طويلاً، توسلاً لإيقاظها، عمارة للأجساد والمدن، وحضارة للكلمة، بعيداً عن القبح وتسويغ جمالياته، إلى جماليات تعني فذاذة الأرواح والكلمات.