ثقافةصحيفة البعث

متاهات الحب وجرائم مبررة في رواية “ظل الريح”

“القراءة تمنحني فرصة العيش بكثافة أكبر و إنني قادر على الإبصار بفضلها، هذا ما يفسر كيف غير حياتي كتاب اعتبره الآخرون بلا جدوى”، لا يمكن التصديق أن كاتباً يستطيع أن يبقي القارئ متحمساً ومشدوداً إلى حبكة واحدة تمتد لأكثر من 450 صفحة، ولكن مع تشويقة “ظل الريح” لا يمكن الاسترخاء وإنما تقليب الأفكار التي حاول الكاتب دسها في الرأس طولاً وعرضاً. وعند الذهاب إلى النوم لا يمكن الانشغال الذهني بشيء آخر دون أن يقتحم الأحلام “خوليان كاراكاس” البطل في الرواية، يشعر القارئ ببرودة الكاتب ويمتلك الفكر والذهن، ليكون كاسراً جيداً لأفق الحبكة، والأهم من ذلك أن القارئ في روايات أخرى يتوقع “ماذا يمكن أن يحدث” أما زافون فقد يأخذنا إلى دائرة أخرى ليست في البال أبداً، يشد القارئ إلى العمق الدرامي والوجداني، ويجعله يتعاطف مع القاتل رغم جرمه، ومع كل شخصية استطاع تقديمها لتحفر في الوجدان، فكيف يمكن إيجاز آلاف الكلمات، وماواكبنا من قراءتها في عدة أسطر؟.

في الواقع تطل رواية “ظل الريح” للكاتب الإسباني كارلوس زافون محتشدة بشخصياتها، والدراما الخاصة بها، ومتشابكة كدغل أمازوني لا تصل الشمس إلى أرضه. إذ يقابل القارئ شخصيات عديدة تبدو كل واحدة منها جديرة بالانفراد بملف روائي كامل، كما تبدو كل واحدة منها مستكينة في موقعها الصحيح ضمن شبكة درامية كبيرة ومثيرة للحسد حيال براعة زافون في الحفاظ على خيوط اللعبة، دون أن تصل الشخصية طريقها أو تشتبك بغيرها بشكل عشوائي لتكون عقدة أو نتوءاً في السرد قد يقودان إلى ضياع القارئ ويفقدانه بوصلته، فلا واحدة من تلك الشخصيات جاءت زائدة عن الحاجة أو كانت بمثابة ترهلات في جسد الحكاية، وإنما جاءت بوصفها ضرورة فنية سينتبه لها القارئ حتماً، ولاسيما أن الرواية تتناول حياة كاملة ومساحة كبيرة من حيوات الأبطال تمتد لسنوات.

الحس البوليسي كان كفيلاً بمنح القصة بعداً تشويقياً كبيراً، وكان حاضراً في “ظل الريح” كنكهة رئيسية، وهناك جرائم ومحاولات لإماطة اللثام عن مساحات كبيرة من الغموض، بالإضافة إلى العنصر الرومنسي، فقصص الحب كثيرة تتناسل ضمن خيط الرواية ويتداخل بعضها ببعض، فلا يمكن الوقوف عند حد معين وهذه لعبة زافون في “ظل الريح”، يظن القارئ نفسه يركض وراء الشخصيات والأحداث، وهو في الحقيقة يضع الكاتب القارئ أمام لوحات ولوحات لتصبح الرواية بفضاءاتها المكانية المتنوعة متحفاً للصور.

الأسلوب الساحر لكارلوس زافون الذي اجترح هذا العمل هي اللغة الانسيابية بشكل آسر في الوصف التقريري أو التشبيه والمجاز أو حتى في اختيار المفردة، الأسلوب كان متفرداً بها ببصمة متميزة.

المترجم البطل

“ظل الريح” لـ “كارلوس زافون” ترجمة معاوية عبد الحميد، وعادة في كل رواية يكون بطل الرواية هو من يسيطر على عقل القارئ ومخيلته، ولكن في “ظل الريح” هناك بطل آخر استطاع القارئ بعد عمل المترجم الجلوس طويلاً دون ترك الرواية، فقد كتب المترجم في نهاية الرواية كيفية اعتماده على تقديم هذه الرواية الشيقة حيث قال:

“في نهاية هذه الرواية يتنفس الصعداء كل من القارئ والمترجم على حد سواء، فقد كان العمل على نقلها إلى العربية لا يقل صعوبة عن فك ألغازها وبذل التركيز المكثف في قراءتها، لكن المكافأة الثمينة تكمن في المتعة التي يمنحنا إياها الكتاب، إضافة إلى معارف متعددة يستحيل حصرها هنا.

ترجمت هذا العمل متنقلا بين مدن أوروبية مختلفة لأسباب قاهرة، وواظبت على العمل دون انقطاع واستخدمت نظرية “الترجمات المقارنة”، حيث اعتمدت على النص الإسباني الأصلي اعتماداً كلياً، كما استندت إلى الترجمة الإيطالية بنسبة كبرى ولجأت مراراً إلى الترجمة الفرنسية، واطلعت جيداً على الترجمة الإنكليزية، وكان انشغالي كبيراً في الإلمام بهذا النص السردي المتشابك ونقله إلى القارئ العربي بأفضل ما يمكن، فوضعت الملاحظات اللازمة لإضاءة بعض الجوانب دون تشتيت القارئ أو حرمانه من متعة التشويق والغموض اللذين برع فيهما زافون خلال حبكته لقصة هذه الرواية، وهذا ما جعلني أعود إلى مراجع نقدية متعددة كي أحافظ على نكهة التعبير، وإلى أخرى في تاريخ الثقافة الإسبانية فضلاً عن الإفادة من أبحاثي في دراسة الترجمة الأدبية والثقافة الأدبية الأوروبية بما أن الرواية تحمل أبعاداً أوروبية في المجال الأدبي والسياسي والاجتماعي”.

جمان بركات