رأيصحيفة البعث

عن مخاض “الباكس أمريكانا”

أحمد حسن

سواء اتسعت رقعة احتجاجات الولايات المتحدة في الأيام القادمة أم تراجعت، فإنها، بحجمها وشموليتها، والعنف الذي رافقها، رسّخت في المشهد السياسي حقائق عدة، أولاها تخصّ العالم الذي عرفت دوله المتعددة احتجاجات مشابهة خلال العشرية الماضية، وهي أنه أصبح فعلياً في حالة سيولة سياسية واجتماعية وعرقية قد تتحوّل في بعض الدول إلى سيولة جغرافية، وثانيها تخص الولايات المتحدة ذاتها، فالاحتجاجات التي لن تتحوّل – لأسباب ذاتية وموضوعية – إلى ثورة جذرية عارمة كما يأمل البعض، تنضج يومياً علامات أفول ما يسمى بـ “الباكس أمريكانا” في الداخل، بعد أن ساهم “كوفيد-19″، مع التطوّرات العالمية المتسارعة، خلال الأعوام القليلة الماضية، في إنضاج علامات أفوله في الخارج، وهو إنذار خطير بتداعياته لأنه يذكر بأفول سلفه، “الباكس بريتانيكا”، الذي أنذر بغروب الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس.

بيد أن وجه المعضلة الأبرز في ما يحدث تكشف عنه حقيقة ثالثة – هي بمثابة الحقيقة المؤسِسة – مفادها أن فيروس العنصرية الذي تظهّر في حالة جورج فلويد ليس عارضاً طارئاً يمكن علاجه بقوانين وقرارات قضائية أو أخلاقية، بل هو مكوّن بنيويّ أساس للإمبراطورية ذاتها، بمعنى أن “العنف المستمر ضد الأقليات هو حاجة دائمة ومستمرّة وبنيويّة للنظام القائم على إخضاعهم”، كما يشير البعض، وهو أمر “ينبع من قلب الاجتماع الأميركي”، كما يقول آخر، فمنذ بداية “الحلم الأمريكي” كانت العنصرية خيار واع رعته النخبة الرأسمالية الحاكمة بهدف شق صفوف طبقة العمال والكادحين بين بيض وملونين ووضعهما بمواجهة بعضهما، وبالتالي منعها من التشكّل كطبقة واحدة ضد المستغل الرأسمالي، وتلك قضية تحتاج إلى دراسات أخرى – توماس فريدمان ذاته، وبما يمثّله، يبدو حائراً، وخائفاً، هذه الأيام – والنتيجة التي تهمنا هنا أن الإمبراطورية “عاجزة بنيوياً عن حل المشكلة العنصرية، وفي الحقيقة هي لن تكون أميركا، ولا حتى إمبراطورية، إن فعلت ذلك”.

وكما أن “التهويل” لما يحدث ليس واقعياً، إلا أن “التهوين” منه يواجه نفس المعضلة، فالعنف اللافت الذي يرافق الاحتجاجات الأضخم منذ الاحتجاجات على مقتل مارتن لوثر كينغ، يشي، في دلالته الأهم، بأن هناك “إدراكاً متزايداً من ضحايا العنصرية أن العنف بات الطريق الوحيد المعتمد للخلاص”، وهذا يعني – بالتضافر مع مؤشرات أخرى – أن الأمور مازالت في بدايتها وأن المشهد مفتوح على ترددات أشد خطورة وجذريّة، خاصة في ظل رئيس وصل إلى منصبه ببرنامج قوميّ يمينيّ فاجر، وتقوم سياسته على مبدأ البلطجة ونشر الفوضى في الداخل والخارج، ليصبح “أول رئيس في حياتي”، كما قال الجنرال جيم ماتيس، “لا يحاول توحيد الأميركيين، بل إنه حتّى لا يدّعي بأنّه يحاول فعل ذلك.. بدلاً من ذلك، فإنه يحاول تقسيمنا”.

بهذا الإطار، تبدو الاحتجاجات – حتى لو خمدت مرحلياً – فاتحة عصر جديد، وبالطبع سيحاول الرجل، الذي قال يوماً للصحافيين مزهواً بإنجازاته: “تخيّلوا لو لم تحظوا بي!”، أن يبحث في المرحلة القادمة عن كبش فداء يوجه له الأنظار الغاضبة. داخلياً وجد مجموعة يسارية واتهمها بالإرهاب، لكنه يحتاج إلى غيرها، وإلى شيء أكبر، أي عدو خارجي، وهذا دور الصين.

جورج فلويد، الضحية الأخيرة، حتى الآن، للعنصرية الأمريكية، كان “يتطلع إلى البدء من جديد”، بحسب ما نقل عنه أحد أصدقائه. العالم كله، وهو الضحية الدائمة للإمبراطورية الأمريكية، يتطلع أيضاً للبدء من جديد.. لكن ما يجب التنبيه إليه حقيقة أن تغييراً ما لمصلحة العالم وشعوبه المقهورة لن يحدث كما يأمل البعض، فمعادلات النهب القائمة على معادلة القوة متواصلة، ولن تكون هناك بداية جديدة إلا لمن يأخذ بأسبابها، أما الباقين فسيكونون مجرد ضحايا لمشروع “باكس” آخر.