ثقافةصحيفة البعث

الطاعون السوري الجديد !

المجتمع السوري عموماً مجتمع بسيط، خصوصاً في ريفه، عمومه من الفقراء الذين يكدون كل أيامهم لتأمين لقمة العيش وتحسين المستوى المعيشي ولو على مستوى تحسين طفيف في نوع الطعام، “الرواق” أو “الكيف” بالنسبة لعموم هذا المجتمع تحققه تفاصيل بسيطة في ظاهرها، ولها شديد الأثر التلطيفي إن صح الوصف فيما تتركه من نتائج على الحالة النفسية عند الناس، فمثلاً الرواق بالنسبة لرجل يعمل طوال النهار في المدينة كان ولمدة طويلة يحققه “سيران” مسائي بسيط فوق أية بقعة خضراء، خصوصاً في فترة الصيف، هذا “السيران” الذي تحضر معه أدوات الكيف “بزر دوار الشمس، بطيخة، سندويش فلافل، نفس أركيلة”، مع ابتسامة الزوجة الراضية، بينما الأولاد يلعبون على المرج، استراحة محارب بسيطة قبل بدء معركته التالية مع الحياة، “الكيف” أيضاً بالنسبة لفلاح قضى نهاراً شاقاً بين الحقول والبساتين، يجلبه كأس شاي رائق مع لفافة تبغ انتهى تواً من لفها، وها هو يُخرج ناره بكل هدوء من جيبه، مشعلاً همومه جميعاً، “مجة” عميقة من اللفافة المشتعلة، ثم إخراج كثيف للدخان يبدد شيئاً من التعب والهم، “دق” طاولة مع صديق أو جار، حديث نميمة منعشة بين صديقتين، خفقة قلب، لمة صبايا حول “جاط تبولة”، موعد عاطفي- قبل وبعد- وأمور بسيطة غيرها، هي عموماً من تُشكّل مفهوم “الرواق” وراحة الأعصاب ولو لمدة قصيرة، لكنها ضرورية ومهمة لاستمرار الحياة.

هذا ما كان من حال السوريين عموماً بما يتعلق بشأن “الكيف”، طبعاً هناك أيضا أساليب أخرى لها علاقة بالمنتجات المصنعة خصيصاً لهذا الأمر، لكنها كانت مقتصرة على فئة قليلة تستطيع شراءها، وغالباً النسبة الكبرى من هذه الفئة منبوذة اجتماعياً، فالإدمان هو من العيوب المرتبطة بالأخلاق عند السوريين، لكن هذا الحال تغيّر، الإقبال على الأدوية النفسية صار مرتفعاً ومن مختلف الأعمار، خصوصاً تلك التي تساعد على الاسترخاء والنوم، فقد تعددت الأسباب و”الحل” واحد، أم فقدت ابنها في الحرب فصار ليلها ونهارها سواء، رجل خسر قدمه أو يده وربما عينه أو نظره في المعركة، بالتأكيد ستكون الفترة الأولى التي يقضيها بعد ما وقع له قاسية وصعبة لدرجة لا توصف، وقد تساعد الأدوية النفسية بعض الشيء، مراهق تلاحقه الكوابيس التي شاهد أسوأ ما فيها يظهر أمامه على الشاشات من ذبح وتفجير وموت دام لا يتوقف، جندي عائد من معارك قاسى وكابد فيها ما لا يصدقه عقل، لدرجة أنه عندما أخذ غفوة في بيته وبعد وقت طويل من أعنف أنواع القتال، كاد أن يطلق النار على زوجته عندما أشعلت ضوء الغرفة تريد إيقاظه ليتناول طعام العشاء، لأنه بقي لفترة طويلة في خطوط القتال الأولى، تلك التي تتطلب التمويه الجيد والاحتياطات الصارمة من كل ما من شأنه أن يفضح مكانه للعدو، لذا صار أي مصدر للضوء بالنسبة له يعني الموت، كما حدث وشاهد بأم عينه لرفيق سلاح أشعل سيجارة، ولم يكد ينهي إشعالها حتى استقرت طلقة قناص في منتصف جبهته، فصار من الصعب عليه التعوّد على الحياة الطبيعية التي فارقها في أقسى الظروف، وهل هناك أقسى من الحرب؟ فيكون الحل هو وصفة طبية فيها أحد الأدوية المهدئة، ولأن النتيجة في شأن كهذا تأتي إيجابية كما يبدو الأمر في بدايته، خصوصاً من جهة سرعة حدوث المفعول المتوخى، ودون “فضائح” للبعض كالتي تُحدثها المشروبات الكحولية، فالطلب سيتكرر على هذا النوع من الأدوية التي تعدل المزاج، وتريح البال، عدا عن كونها تساعد على النوم الذي لنا مذهب وجودي فيه، يتمثل بالمثل الشعبي القائل “نام وارمي همك لقدام”، وهذا يكون الشرك الذي يقع فيه من يقع، لتبدأ فصول الجحيم الآخر تتوالى جراء الاستعمال المتكرر والمفرط لتلك العقاقير، ولا حاجة لإيراد طبيعة المصير الذي ينتهي إليه من يسلك هذا الطريق، فالكمية أو الجرعة التي كانت مفيدة، ستصبح بعد مدة بحاجة لرفعها وزيادتها حتى تؤثر، وهكذا، يبدأ الأمر بـ “حبة” للمساعدة على النوم، وينتهي بمصيبة بل وفجائع كما حدث وشاهدنا من أحداث محزنة وقعت وكان حال “الكيف، المزاج” متدهوراً جراء صعوبة تأمين “لوازمه” من مواد مخدرة أو أدوية مهدئة لا تُباع إلا من خلال وصفة طبية موثقة من طبيب مختص، أو عن طريق التجارة غير المشروعة بها، والأخيرة هي الخطر المستشري الذي عادة ما يصبح في حال الحروب الكبرى أكثر توسعاً وتشعباً ونفوذاً.

هذا من واقع حياتنا اليومي للأسف، المشهد الذي لم يكن ظاهراً إلا في بعض الأعمال المحلية الدرامية مثل “الخشخاش”، واليوم هو بائن وواضح ومتسع في مجتمعنا طولياً وعرضياً، ومن مختلف الأجناس والأعمار، ونحن بحاجة ماسة للتعامل معه، لدينا أجيال ناشئة مستقبل البلاد يعتمد عليها، وهذا ما تشاهده وتجده أمامها بل وتتبعه، حتى صار مشهد طفل لا يتجاوز عمره العاشرة يمشي مترنحاً، يحمل بيده مشروباً كحولياً كالذي يباع في الأكشاك المتوفرة ليل نهار، عادياً ومألوفاً، وهذا هو أسوأ ما يمكن أن تحدثه الحرب، دق ناقوس الخطر في شأن كهذا يجب أن يبدأ، والعمل على حل هذه الكارثة الإنسانية يجب أن يتم وبمختلف الحلول الصائبة والمدروسة، لا الاعتباطية والمسلوقة سلقاً ..

 

تمّام علي بركات