الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

“أنا منيحة بابا”!!

سلوى عباس

كاد الألم الذي غصت به نبرة صوته أن يطبق على الكون، وهو يحدثني عن واقعه المادي والاجتماعي المتردي، ويصف حالة القلق التي يعيشها إذا ما اتصل إلى منزله مرة وسمع صوت ابنته المريضة يرتجف على الهاتف، وكيف يرتجف قلبه معها وينسى كل ما حوله، ولا يرى إلا صورتها، تغزوه نبرة صوتها البريئة، وتنشر في لهفته حزنها، ويتلبسه الحزن تاركاً لنبات الأسى أن ينمو على وجدانه متسعاً كل أفراحه بها وحبوره عندما يسمع صوتها الحريري الحزين وهي تقول له: “أنا منيحة بابا”، لكن كلامها هذا يزيد تدفق القلق في روحه وتتسع بحيرات الانشغال، ولا يقوى على سماع حزنها، ولا يقوى أن يبقى بعيداً دون أن يكون قربها فيضم إلى صدره شهيقها المتعب وكل أحزانها، فهي وأخوتها جزء من روحه.. بل كلها.

حال هذا الأب أعادتني إلى مرحلة الطفولة لترتسم في ذاكرتي صورة أبو أحمد، الرجل النحيل الجسم الذي كان يأتي إلى حارتنا يحمل على ظهره صرة كبيرة مليئة بالأقمشة الملونة والجميلة، وابتسامة ممزوجة بالأسى تزين ملامح وجهه، وكانت نساء الحارة يجتمعن في منزل إحدى الجارات يفردن البضاعة ويقلبنها، وكان يتحمل نزقهن بطيب خاطر، فهو يريد أن يبيع ما لديه ليعود إلى أسرته بما يسد رمقها. وكنا نحن الصغار نفرح بقدومه حيث كان يلتف على مشاغباتنا بإعطائنا حبات السكاكر التي كان يحضرها لنا في كل زيارة، وكنا ننتظره لنفرح بمداعباته لنا، وفي آخر النهار يعاود ضب ما تبقى من أقمشة في صرته مدارياً كروب قلبه التعب ويغادرنا مودعاً بذات الابتسامة التي كان يستقبلنا بها، ونحن نبقى على انتظار ليعود إلينا بالسكاكر التي كان يهدينا إياها.

كثيراً ما كان حال أبو أحمد يثير في ذهني الأسئلة: من أي قرية هو؟ وما المسافة التي سيقطعها ليصل إلى منزله مبللاً بعرق التعب من شقاء يومه؟ ليركن إلى روحه يتلمس وهن قلبه الذي أضناه الركض مدركاً صعوبة أن لا يكون ما جناه في يومه على قدر انتظار أولاده له، فينكفئ على نفسه منهكاً بإخفاقاته من تحقيق أحلامهم، لكنه كان في اليوم الثاني كان يستمد من الضعف قوة ويبدأ نشاطه مع صباح جديد لعل حلماً جديداً يرتسم في أفق آخر كان غائباً عنه.

حكاية أبو أحمد هذا هي حكاية الكثير من السوريين الذين يصارعون الحياة ليحافظوا على أرواح كاد الظلم وقسوة الحياة أن يحيلوها هشيماً.

****

قبل سنوات تسع لم تكن تدرك من قسوة الحياة شيئاً أكثر من فقدها لوالديها.. هذا الفقد الذي كبّلها بالخوف على كل من حولها.. في ذلك اليوم الذي صدر فيه قرار العفو عنها، وإصدار صك براءتها، لم تقل شيئاً، بل اكتفت بالإصغاء لصمتها.. لم تنتبه إن كان أحدهم يناديها من عالم مجهول.. كانت حينها في مرمى الحيرة أين ستذهب، ولمن ستلجأ، فما عاشته في غياهب السجن جعلها تفقد إيمانها بكل شيء. ومع ذلك صعدت إلى الحافلة التي أقلتها إلى مركز المدينة، ونزلت هناك مع مجموعة من رفيقاتها اللواتي قضت معهن ردحاً من الذنوب التي لم تعرف حتى هذه اللحظة كيف لحقت بها… كل ما تعرفه أنها بلحظة من عمر الخيبة وجدت نفسها وراء قضبان من قسوة.

هذه التداعيات عاشتها وهي في الطريق إلى منزلها الذي انتزعت منه لأسباب تجهلها.. كل شيء كان غريباً عنها، وحتى الطريق الذي سلكه الباص باتجاه المنطقة التي تسكنها شعرت أنها لأول مرة ترتاده، فقد أفقدته الحرب كل ملامحه. وعندما وصلت إلى الحي ذهبت إلى بيتها.. دخلته مترددة كغريبة، وكأنه لم يحتضن يوماً ذكرياتها، أحلامها وخيباتها، فرحها وحزنها، طموحاتها وهزائمها.. حاولت أن تكون قوية وأن تمسك بقلبها تهدئ من اضطراباته قبل أن يذوب في صدرها، وأن تبقي عينيها مفتوحتين خوفاً من أن تغفو ولا تفيق.