دراساتصحيفة البعث

ترامب يرسم نهاية ولايته

ريا خوري

يشهد العام 2020 منذ بدايته تغييراً واضحاً وصريحاً لخارطة النظام العالمي، بحيث بدأت ملامح النظام الجديد تلوح في الأفق. هذه الملامح لم تكن لتظهر لولا حالة التقهقر والعجز التي تمر بها معظم الدول الكبرى القوية المسيطرة على العالم، وأهمها الولايات المتحدة الأمريكية التي تبسط سيطرتها عبر القوة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بشكلٍ كبير. هذا التقهقر ساهم في تصاعد الدور الذي تلعبه العديد من الدول الجديدة أمثال روسيا والصين، سواء فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب والذي لعبت روسيا فيه دوراً بارزاً، خاصة في القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي في سورية، أو حالة النمو الكبير والمتسارع الذي تحققه الصين.

ليست الدول التي يمكن أن تتغيَّر وتتبدَّل فحسب  بل المنظمات الدولية التي تبدو بشكل واضح أحد أطراف اللعبة السياسية بين القوى الدولية، سواء الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، أو منافسيها في الجانب الآخر. منذ مجيء دونالد ترامب ازدادت التصريحات العدائية ضد العديد من المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها الكثير، وهو ما يمثل ترجمة حقيقية للمصالح الأمريكية وحدها دون غيرها ما يمثِل خروجاً واضحاً على القواعد الدولية التي أرستها هيئة الأمم المتحدة.

لقد هاجم الرئيس الأمريكي ترامب منظمة الصحة العالمية مؤكِّداً رفضه لتوصياتها بترك الأجواء مفتوحة مع الصين منذ بدء انتشار فيروس كوفيد 19 (كورونا) المستجد، وقال: “إنَّ منظمة الصحة العالمية أفسدت معظم  معالجاتنا لفايروس كورونا لسبب ما، المنظمة مموَّلة بشكلٍ كبير جداً من الولايات المتحدة الأمريكية، لكنَّها منحازة للصين”. مع العلم أنه هدّد قبل ذلك بتعليق التمويل الذي تقدمه بلاده لمنظمة الصحة العالمية بصورة مستمرة، إذا لم تقم المنظمة الأممية خلال شهر واحد فقط  (30) يوماً بإصلاحات جوهرية كبيرة وملحوظة. منذ البداية أدرك الجميع أنَّ هذا العام 2020 يمثِّل أهمية كبيرة في تحديد إطار ومستقبل المنظمات الدولية بعد الإرهاصات التي شهدتها السنوات السابقة، والتي تمثَّلت بموعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي الخطوة التي أنبأت بنهاية الاتحاد الأوروبي. ثم جاءت جائحة فيروس كوفيد 19 (كورونا) لتزيد الشكوك  ووضع علامات استفهام عديدة حول منظمة الصحة العالمية، وهي ككرة الثلج المتدحرجة على خطى منظمات أخرى مثل اليونسكو ومنظمة التجارة العالمية وغيرها.

لم يتوقف الموقف العدائي الأمريكي ضد تلك المنظمات في المجال السياسي، بل امتدت أبعاده المتشابكة إلى السياسة والاقتصاد والثقافة وحتى التكتلات القارية على غرار دول الاتحاد الأوروبي، وذلك في إطار تشكيل نظام عالمي جديد في ظل معطيات هامة أبرزها خفوت النجم الأمريكي في مواجهة دول أخرى منافسة له على قمة النظام الدولي، والسبب هو الأساليب والقواعد القديمة التي لم تعد تناسب حرية التجارة، ودعم الشركات عابرة القوميات والشركات عابرة القارات، والتي منحت قوة كبيرة لحلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حدٍ سواء على حساب أمريكا نفسها.

لقد نشر دونالد ترامب تغريدة على التويتر أرفقها بصورة عن كتاب كان قد أرسله إلى المدير العام لمنظمة الصحة العالمية غيبريسوس، جاء فيه  تهديد بتجميد دائم للتمويل مع إعادة النظر في عضوية أمريكا للمنظمة، وهنا تبدو الحقيقة واضحة أن الولايات المتحدة هدَّدت بالانسحاب من عدة اتفاقيات دولية تحت شعار الولايات المتحدة الأمريكية أولاً. فقد أعلنت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) رسمياً في شهر تشرين الأوَّل 2017 بعد مزاعم انحيازها ضد الكيان الصهيوني الغاصب، كما تعرَّضت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) لهجوم كاسح لانتقادها احتلال جيش الكيان لمدينة القدس الشرقية وتسميتها مواقع (يهودية) أثرية باعتبارها مواقع تراث عربي فلسطيني، ومنحها العضوية الكاملة لفلسطين عام 2011 .

وبجردة حساب بسيطة نجد أن الولايات المتحدة انسحبت من معاهدة باريس للمناخ، وقام دونالد ترامب بإخراج الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي التي وقعتها إحدى عشرة دولة عام 2015 من منطقة آسيا والمحيط الهادئ باستثناء الصين، كما انسحبت أمريكا من الاتفاق النووي الذي وقَّعته مع جمهورية إيران الإسلامية، وقامت الولايات المتحدة بإجراء مفاوضات جديدة بخصوص اتفاق التبادل الحر لدول أمريكا الشمالية “نافتا” عام 1994، كما طالب ترامب بإصلاح هيئة الأمم المتحدة معتبراً إياها منظمة بيروقراطية، وانتقد ترامب حلفاءه في حلف شمال الأطلسي معتبراً إياه أنه عفا عنه الزمن، ودعا أعضاء الناتو إلى زيادة ميزانية بلدانهم الدفاعية، واستهجن واستنكر غير مرة الإجراءات الحمائية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، وكذلك العجز التجاري الكبير بين واشنطن وبرلين، وتم تعليق المناقشات والحوارات الجارية منذ 2013 بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. كما شنَّ هجوماً شرساً على محكمة الجنايات الدولية بسبب اتهام دولة الكيان الصهيوني بمعاداة السامية.

اليوم يقع ترامب في شر أعماله بعد مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد، الأمر الذي تسبَّب بانتفاضة عارمة داخل الولايات المتحدة، وفي معظم العواصم الأوروبية، وفي العديد من العواصم العالمية، وبالتالي قد تكون النهاية على الأبواب.