ثقافةصحيفة البعث

“قواف” يستضيف الشاعر محمد كنايسي في حوار فتح أبواب الروح و نافذة القصيدة….

القصيدة العابرة الزمن، والشاعر محمد كنايسي في برنامج “قواف”، القناة السورية، في حوار تلفزيوني طال إشكاليات القصيدة، والإحساس بالاغتراب الروحي، والتعلّق بالأمكنة، ومسائل أخرى ناقشها معه الشاعر والإعلامي علي الدندح، مبتدئاً بـ “الحضور الخارق في شخصه شعراً وثقافة وصحافة وامتداداً، في دمشق نبتت تجربته الشعرية، حيث اتسمت قصائده بالجرأة، وانخرطت في هموم العصر وهوجائه، كما حملت أشعاره الحداثية رؤيته الفلسفية العميقة بقضايا الكون بعيداً عن الاختصاص الفلسفي”.

– وفي سؤاله عن خصوصية المدن التاريخية عن القيروان التي جاء منها، وشهدت على انطلاقته الشعرية الباكرة أجاب:

هناك مدن تكتسب أرواحاً، بحيث عندما تمشي في أزقتها وتتجول ضمن أسوارها وفي أسواقها القديمة تشعر بالتاريخ بأماكن تفوح منها رائحة الزمن، وهذه المدن باعتقادي ستبقى وتؤثر في ذاكرة الإنسان، وفي تكوينه، وفي تصوراته، والقيروان واحدة من تلك المدن، وهي توءم دمشق، فهي قديمة جداً، وتعد الحاضرة الإسلامية الأولى في المغرب العربي.

– ومن القيروان مضى الشاعر والإعلامي علي الدندح إلى أوجه التشابه بين القيروان ودمشق؟.

تحدث كنايسي عن العلاقات القديمة بين البلدين نتيجة الهجرات المتعاقبة التي تمت إلى القيروان بعد الفتوحات الإسلامية، إضافة إلى أنها تأثرت بمن سبقها من الحواضر الإسلامية من حيث الطراز المعماري خاصة، فهناك الكثير من التشابهات والتقاطعات بين الجامع الكبير في القيروان الذي بناه عقبة بن نافع، والجامع الأموي في دمشق.

ثم قرأ كنايسي قصيدة القيروان التي تعد توصيفاً للمدينة، ومنفذاً لبوحه بالاشتياق:

لضربة شمسك أشتاق

يا خلطة من شقاء المكان

عطر الأبد

ويا زمناً لم يعد ويا شبق الروح قبل الجسد.

 

إيقاع القصيدة التونسية

– وفي سؤال إذا كانت القصيدة تحافظ على إيقاعها في القيروان؟ وإن كان هناك تأثير من المدّ الغربي إلى القصيدة القيروانية التي حافظت على التراث الشعري؟ أوضح كنايسي بأنه لا يمكن التعميم بأنها حافظت على التراث الشعري، لاسيما بظهور أصوات لأشكال شعرية أخرى، بما فيها قصيدة النثر كجنس أدبي خارج عن شكل الشعر الكلاسيكي الذي تطور عن شعر التفعيلة، وفي القيروان ظهر نفس خاص في حقبة محددة، إذ تميز الشعر فيها باقترابه من العوالم الصوفية، والبحث ضمن القصيدة عن المطلق، لذلك شكّلت القيروان مدرسة عُرفت بمدرسة القيروان.

– وتطرق الدندح إلى المدارس الشعرية ليسأل: “هل تغيرت قصيدة كنايسي في دمشق؟ وهل ينتمي إلى مدرسة؟ فرأى كنايسي بأن هناك إشكالية باعتبار الشكل الشعري مدرسة، وتابع بأنه كتب القصيدة العمودية ثم التفعيلة وقصيدة النثر في وقت متزامن، ولم تطل مرحلة كتابة الشكل الكلاسيكي لانتقاله إلى التفعيلة، ولم تكن القصيدة العمودية الأكثر شهرة، بل إن قصيدة التفعيلة كانت الأكثر رواجاً في بداية السبعينيات.

ديوك الروح من قلق تصيح

فلا فجر لأعينها يلوح

ولا طير يزقزق فوق غصن

ولا ورد يبرعم يفوح.

 

قصيدة اليوميات

– من بداية السبعينيات حتى الآن أصدر الشاعر كنايسي ديوان ديوك الغريب بستمئة صفحة من القطع الكبير فقط، ما جعل الدندح يسأله عن هذا الانقطاع فأجاب:

توقفت عن الكتابة في الثمانينيات قرابة ثلاثة عقود، وضاع الكثير من القصائد المتفرقة التي كتبتها إلى أن بدأت بكتابة ديوك الغريب في سياق يوميات شعرية، ولذلك تتباين القصائد بقيمتها، والشاعر يستطيع بقدرته أن يجعل قصيدة اليوميات عابرة الزمن، ومن الصعب أن تصل إلى ذلك طالما ترتبط بحدث معين إلا بقدرة الشاعر، وأحياناً لا ينجح الشاعر في عبور الزمن، ومع ذلك ثمة قصائد حديثة مثل قصيدة النثر جعلت من الحدث اليومي موضوعاً أساسياً.

حسبت البلاد خروفاً وديعاً

فكشرت عن نابك الأسود.

– وبعد نصف قرن من الغربة ماذا عن القيروان؟ الشعور بالغربة شعور دائم وليس فقط الغربة الجسدية، وإنما الاغتراب الروحي، فعلاقتي بدمشق لا تختلف عن علاقتي بالقيروان، العلاقة متشابهة ووطيدة، أشعر أنني قيرواني وأنني دمشقي، وأحياناً يصيبني نوع من الارتباك، فلا أميز بين انتمائي إلى القيروان أو إلى دمشق، وكأنني أتمزق بين مكانين، فهناك أمكنة تعيش فيك، وأمكنة تشدك، وأمكنة تملأ ذاكرتك، وأمكنة تأخذك إلى عوالم أخرى، وأعبّر عن ذلك:

وفي روحي دموعك يا دمشق

تفيض تسيل على خدود القيروان.

– العنوان ضوابط وعتبات، فلماذا أغفلت العناوين لتأخذ التواريخ مكانها؟.

كنت أفكر بما أكتبه كحالة يومية، لذلك ارتأيت أن أكتفي بالتاريخ، لأنني أكتب بشكل يومي، وعنوان الديوان يكفي للإيماءة عن فحوى القصائد التي تتميز بحالة الاغتراب التي يعيشها الشاعر والفنان عموماً، وفي الديوان الجديد وضعت العناوين مع أنه يشابه أيضاً اليوميات.

– وما الفرق بين القصيدة اليومية وقصيدة المناسبة، هل تتشابهان؟.

قصيدة المناسبة تختلف إلى حد ما، فهي لا يمكن أن تحظى بنوع من التأثير الحقيقي، هي تأتي سريعاً وتفور، ولا تتقاطع مع الذاتية، لأنه يكتب من أجل موضوع ما خارج ذاته على عكس القصائد الذاتية التي يمكن أن تعبر الزمن لأنها تصدر من المعاناة الداخلية، وتتعلق بالقلق الوجودي والكينونة، وهي الموضوع الأثير للشعر.

 

القصيدة القصيرة

– تميل قصائدك نحو القصر نوعاً ما، فهل يمكننا القول بأن المطوّلات انتهى زمنها في زمن الومضة والق.ق. ج؟.

ليس بالضرورة، فهناك شعراء يكتبون القصائد الطويلة، وأنا قصائدي تتنوع بين المطوّلات والقصيرة، فقصيدة القيروان من القصائد الطويلة، لكنني أميل إلى القصيدة القصيرة، وأجد فيها نفسي، وأعبّر فيها من خلال الاختصار اللغوي والتكثيف الشديد، وهذا يكفي للتعبير عما أريده، وهذا ليس سهلاً، فالصعوبة لا تكون في طول القصيدة أو قصرها، الصعوبة في القدرة على كتابة القصيدة، سواء كانت طويلة أو قصيرة.

 

أدب كورونا

– جائحة كورونا شغلت حيزاً من الحوار، فكثير من الأدباء والشعراء كتبوا عن الأمراض والأوبئة، فتوقف الدندح ليسأل: هل سنسمع بأدب الكورونا كما كُتب عن الطاعون؟.

النتاج الأدبي في هذا الموضوع لابد أن يتأخر عن غيره من الكتابات، فبعض المفكرين كتبوا، وهناك من قاربها فلسفياً، وهناك من قاربها أدبياً من العرب والأجانب، لكن المقاربات الأدبية التي اطلعت عليها، لاسيما على صعيد الشعر، لا أعتقد أنها تحمل قيمة فنية كبيرة، ولا أعتقد أنها يمكن أن تبقى، إلا أنني أتنبأ بأن الكتابة ستأتي في وقتها، لأن الكتابة الأدبية تحتاج إلى وقت حتى يعبّر الأديب عن موضوعه بأي شكل من الأشكال الأدبية، سواء أكان رواية أم قصصاً، وهناك من بدأ، لاسيما روائياً، لأن الرواية أقدر على التوثيق من الشعر.

وعن العزلة لم يجد  كنايسي مشكلة كون الشاعر يعيش دائماً عزلته، إلا أن البعض كما ذكر لم يستطيعوا أن يتأقلموا مع الحجر الصحي، فالإنسان عامة لا يمكن أن يعيش في بعد اجتماعي عن غيره، ويصعب أن يتحول العالم كله إلى منزل.

– وختاماً هل أخذ عالم الإعلام والصحافة من محمد كنايسي الشعر؟.

لا أعتقد أن العمل يمكن أن يقف في طريق الإبداع، فأنا كتبت الديوانين، وأنا على رأس عملي، فعقّب الدندح: هل يمكن أن تتسرب بعض مفردات المهنة إلى القصيدة، يعني إذا كان الشاعر طبيباً مثلاً أو صحافياً؟.

ممكن، لكن الأمر الهام أن نحافظ على فنية القصيدة بشكل عام، فلابأس أن نطوّع ما يأتي لخدمة القصيدة، أما أن تصبح القصيدة هجيناً فهذا غير مناسب.

وودع كنايسي متابعيه بقصيدة الكرسي برمزيتها الحاملة مقاربات إنسانية تدل على العجز والزمن والتعب النفسي:

كرسي مهجور مثلك يا قلبي

يذوي اليوم وحيداً في زاوية النسيان.

 

ملده شويكاني