ثقافةصحيفة البعث

الجرأة على كسر الأنماط المتوارثة ….

يؤرّخ الناقد المغربي المهم خرّيج جامعة “السّوربون الباريسيّة”، “عبد الفتّاح كيليطو” في إحدى محاضراته، لبداية التّحديث الأدبي العربي بنصّ “لأحمد فارس الشّدياق” عنوانهُ “السّاق على السّاق” الصادر عام 1955م يوم أعلن تخلّيه عن السّجع، ثائراً على المحسّنات البلاغيّة والصور التقليدية، داعياً إلى كتابةٍ موجهة إلى القراء عموماً، لا إلى النخبة وحسب. ثمّ يتابع الناقد قولَه بخصوص فكرة التجديد الشعري قائلاً: “يعلّمنا التاريخ أنّ تجديد الشعر يحدثُ عندما يقف شاعر ضدّ أسلوب، وضدّ تقليد، أو ضدّ مدرسة”. وهذا ما يفعله كلُّ دعاة التّحديث والتّطوير، ليس فقط في المنحى الأدبي، بل في شتّى المجالات. أيّ الثورة على الأنماط المستهلكة السّائدة. وهذا ما فعله أيضاً كبارُ قامات الأدب العربي وحاملو لواء تجديده. لدرجة أنّ مشايخ الكار، أيّ النّقاد التقليديين المكرّسين، حجبوا  عنهم، صفة الشعر بهذا المعنى، وذلك لتجرُّئهم على كسر الأعراف المتوارثة، والقواعد السائدة التي درجت عليها الذائقة العربية، تلك القواعد التي كادتْ تتحوّل إلى مقدّسات شكليّة لا يجوز المسّ بها. ومن الشّعراء الذين أصابتهم سهام مناوئي التحديث: “أبو تمام” الذي أخذ عليه غموضه وإبهامه وذهابه بالشعر إلى مطارح لم يكن يألفها، بما يمكن وسم شعره ربّما، بالشعر الرؤيويّ ذي البعد المعرفي الذي ينطق بالحكمة، معمقاً بذلك مضمون وشكل الشّعر أيضاً. وكلّنا يذكر جوابه الشّهير حين سُئل: لماذا لا تكتب ما يفهم؟ فأجاب مستنكراً “ولماذا لا تفهمون ما يُكتب؟. والقضية هنا تتعلّق بتغيير جوهري في المعادلة الكيميائية الجديدة بين القارئ المسترخي والكتابة الجادّة التي تتطلب بعض الجهد، والتطوير في الأدوات كي تصبح ذات أهمية وفائدة أكثر، ليصبح القارئ حسب مفاهيم النقد الحديث مشاركاً فعلياً في عملية إنتاج النّص. و”أبو نواس” بخمريّاته  التي تجرّأ فيها على كسر المفهوم الأخلاقي للشعر، واللازمة الشعرية المعروفة بالمقدّمة الطلليّة ساخراً بقوله: “قلْ لمن يبكي على رسمٍ درس/ واقفاً ما ضرّ لو كان جلس” وكذلك قوله: “صفة الطلول بلاغة الفدْمِ/ فاجعلْ صفاتِكَ لابنةِ الكرْمِ” و”المعرّي” باتجاهه الشعري الفلسفي التأمّلي الذي ذهب كما يقول “كيليطو” إلى أبعد مدى في “لزوميّاته” فلمْ يكتفِ بمخالفة المتقدّمين، بل خالف نفسه، برفضه لمكونات الشّعر التقليدي وتبرّئه من ديوانه السابق “سِقط الزّند”. ويتابع الناقد المغربي مستشهداً بقول “ابن خلدون”: “بهذا الاعتبار كان الكثير ممّن لقيناه من شيوخنا، في هذه الصّناعة الأدبيّة، يرون أنّ نظم “المتنبي والمعرّي” ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب المعروفة” ليصل إلى النتيجة السّاخرة بأنّ “أكبر شاعرين عربيّين لم يكونا شاعرين” لأنهما خالفا السائد والمتعارف عليه.

يتابع “ابن خلدون” في مقدمته الشهيرة، قاصداً فنّ الأدب والكتابة: “حين سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أنّ أصول هذا الفنّ وأركانه أربعة دواوين هي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فيتبع لها وفروع عنها، حيث بالاطلاع عليها يصبح الإنسان أديباً مكتملاً وقادراً على تأليف نصوص جيّدة أو لا بأس بها”. ويعلق “كيليطو” على الأمر ساخراً: إنّ هذه الوصفة تناسب الهواة. مستحضراً رواية “زقاق المدقّ” للأديب المصري “نجيب محفوظ” التي يرسم فيها صورة لشخص يطمح أن يكون كاتباً، ولأجل ذلك يقرأ الكتب الأربعة المذكورة في مخطوطة ابن خلدون، فيفاجأ بالنتيجة السلبية أنه ظل عاجزاً عن الكتابة. وأنا شخصياً “يتابع كيليطو” أخذتُ العبرة من هذا الشخص، فلمْ أقرأْ سوى كتاب “البيان والتبيين” لذلك فأنا لا محالة كاتبٌ ناقص!.

من منا لا يذكر النصيحة التاريخية الشهيرة، حين قَدِمَ أحد محبّي كتابة الشعر إلى شيخ كار أدبي مهمّ مفصحاً له عن نيته هذه، فنصحه بحفظ أربعة آلاف بيت من الشعر. وحين أتمّ ذلك جاءه ثانية ليخبره بإنجازه المهمّة، فقال له ثانية، الآن، انسَ ما قرأت ثمّ ابدأ الكتابة. طبعاً هذه النصيحة الأدبية، مهمّة إذا تجاوزنا معناها المباشر، حيث يجب ألا نأخذها بالقراءة الضيقة إلى سطحية تأويليّة لا يحتملها مضمونها، لأنها تشير إلى مسألة بغاية الأهميّة، وهي أنّ عمليّة التثقيف التراكمي بكلّ مجال أو حرفة أو إبداع  تتطلّب اتقاناً لعملية الهضم وتأنياً بالقراءة بما يفسح المجال لتعميق ملكة الذائقة، وتمثل المقروء وإعادة إنتاجه بحلةٍ جديدة. وهنا يحضرني قول للمفكر “هشام شرابي” أراه يصبّ في مجرى السّياق: “الآن عرفتُ ما الذي عناه “نيتشه” بأنّ القراءة هي فنّ المضغ الذي لا تُجيده إلا البقرة”.

نهاية نقول: ألم تكن تجربة روّاد الحداثة الشعريّة العربيّة “الملائكة والسّياب” وغيرهم في تجاوز نمطيّة الوزن والعمود الشعري القديم، وتأسيسهم لما عُرف بقصيدة التفعيلة أو، الشعر الحرّ، كما درجتْ تسميته آنذاك. وكذلك تجربة “الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا إلخ..” في قصيدة النثر، الذين تجرؤوا على نسف محرّمات القواعد الشعرية المألوفة من جذورها، أمثلة نيّرة على جرأة هذا الكسر للأنماط المستهلكة؟.

أوس أحمد أسعد