رأيصحيفة البعث

رد على: (الاستئناس.. دروس وعبر)

د. علي دياب

لفت انتباهي ما نشر في صحيفة حزبنا، للرفيق أحمد حسن، بعنوان (الاستئناس.. دروس وعبر)، عن تجربة الاستئناس الحزبي, كما توقفت قبلها عند الكلمة التاريخية التي وجهها الرفيق الأمين العام للحزب إلى القواعد الحزبية بمناسبة الاستئناس، وقبل بدئه، وهو ما يحصل لأول مرة في تاريخ الحزب، من حيث توسيع مشاركة القواعد الحزبية. وقد جاءت كلمة سيادته، على الرغم من اقتضابها، جامعة مانعة مشيرة إلى حجم التحديات التي يواجهها حزبنا ووطننا، واختتمت بأن الديمقراطية مسؤولية قبل أن تكون ممارسة، وطالبت الرفاق باختيار المرشحين الأكثر كفاءة، وقد أعدت قراءتها أكثر من مرة، وقلت أن هذ العملية ستكون متميزة، منطلقاً من أن الرفاق سيتمثلون ما جاء في مضمون الكلمة التاريخية، وسيعودون إلى ضمائرهم البعثية غير متأثرين بأي ولاءات ضيقة، أو اعتبارات غير موضوعية، وغير مكترثين بأهل النفوذ في السلطة التنفيذية أو الحزبية.

– ولكي نكون موضوعيين في حكمنا على ما أطلقه الرفيق أحمد حسن، فلا يمكن له أن يعمم على الجميع، فهناك الكثير من الرفاق الذين أعربوا عن تمسكهم بقيم الحزب ومبادئه التي أكدها القائد الأسد، وتمثلوا مضمون كلمته، واختاروا ممثليهم وفق قناعاتهم، إلا أن بعضهم الآخر خضع للإغراءات، وهؤلاء في معظمهم جاؤوا إلى الحزب للانتفاع وتحقيق مصالحهم الشخصية، ولم يستطع الحزب أن يصقلهم ويحولهم إلى مناضلين حقيقيين، أو أن بعضهم يعاني وضعاً اقتصادياً سيئاً، ولذلك بقوا في حالة من الضعف والهشاشة يسهل اختراقهم والتأثير عليهم، بالإضافة إلى أن الحزب الذي كان سابقاً يتشدد في قبول أعضائه ويتوقف عند البنية الطبقية لطالب الانتساب، كونه حزب العمال والفلاحين وصغار الكسبة والمثقفين، تساهل مع مرور الزمن مع البورجوازية الصغيرة والكبيرة.

– إلا أن الحزب، وللأسف، أصبح يضم اليوم أثرياء وملاكين، وما يمكن أن نقول عنهم أنهم أصحاب الملايين إن لم يكن المليارات، وهؤلاء أصبحوا يستخدمون نفوذهم المالي في الحياة العامة، ويتقدمون اليوم لانتخابهم كممثلين لقواعد البعث، متناسين أن أهداف البعث هي “وحدة.. حرية.. اشتراكية”، فأين هم من الاشتراكية? إلا اذا كانوا يعدون حزب البعث مثل الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي ليس له من الاشتراكية إلا الاسم. وهنا أذكر أنني حضرت مع رفيق لي في قيادة الحزب مؤتمرين للحزب الاشتراكي الفرنسي، في العامين 2002 و2004، في غرونوبل وديجون، وجعلني فضولي يومها أسأل أحد معارفي، في مكتب العلاقات الخارجية في الحزب المذكور، عن عدد أعضاء الحزب وعدد المتفرغين فيه، فأجابني: عدد أعضاء الحزب 80 ألفاً، وكان عدد سكان فرنسا يومها بحدود الـ 60 مليوناً، أي أن عدد أعضاء الحزب أقل من عدد رفاقنا في شعبة ما من شعب حزبنا، وعدد المتفرغين يقتصر على الأمين العام للحزب، وكان وقتها فرانسوا هولاند، فهو الوحيد الذي يأخذ راتبه وسيارته من الحزب، فقلت له: وبقية الكوادر؟ فقال: كلها تعمل تطوعاً، ولديهم شركات، و.. و.. ومنهم من يتبرع للحزب. ولا شك أن بنية الحزب الاشتراكي الفرنسي لا يمكن مقارنتها ببنية حزبنا لأننا حزب اشتراكي فعلي، وأعضاؤه كادحون، وإذا لم يكونوا متفرغين فمن الصعوبة بمكان الاستمرار في العمل الحزبي، وهذا الأمر يحتاج إلى مناقشة خاصة.

– في العودة إلى ظاهرة المال السياسي في حزبنا، أذكر أنه في الدور التشريعي الانتخابي الأول، كانت قوائم الحزب مغلقة مع قوائم الجبهة، وبالتالي لم يستطع أحد من المرشحين الوصول إلى مجلس الشعب، فوجه يومها القائد المؤسس، الرئيس المناضل حافظ الأسد، بتخصيص نسبة30% من عدد أعضاء المجلس للمستقلين (تجار – رجال دين – و.. و..)، وكان هؤلاء يدفعون المال للناخبين الفقراء، ويوزعون وجبات غذائية.. وغيرها، وكنا نسكت عن ذلك، ونقول: دع هؤلاء الفقراء يستفيدون (شعرة من.. مكسب!).

– أما أن يتحول هذا الأمر إلى داخل المؤسسات الحزبية، ومن بعض الرفاق الحزبيين، فهذا امر خطير، ويجب التوقف عنده، وألا يسمح به، فهؤلاء لا علاقة لهم بعقيدة الحزب الوطنية والقومية، وإن أرادوا الوصول إلى مجلس الشعب فعليهم أن يقدموا ترشيحهم بصفة مستقلين، وليس على حساب مقاعد حزبنا، وليدفعوا وقتها ما يريدون. وبالتالي، فهم من الناحية الفكرية والتنظيمية، لا علاقة لهم بحزب البعث إلا بالاسم، ويمكننا القول إنهم وجدوا أن الوصول إلى السلطة لن يكون إلا عبر بوابة البعث. واليوم، وبعد مضي أكثر من خمسة عقود على حكمه لهذا القطر، الذي يعد القلب من أمته العربية، فإن الحزب أحوج ما يكون إلى تصويب مساره التنظيمي والفكري وتطويره – كما ذكر الرفيق الأمين العام – وتنظيف صفوفه من الوصوليين والانتهازيين.

– من جهة أخرى، تناسى الرفيق أحمد حسن عدداً من المحطات الإيجابية في أدبيات الحزب وتاريخه النضالي، وأطلق عدداً من الأحكام العامة والتعميمات المجردة دون تحديد أي مرحلة من المراحل يقصد.

– لاشك أن هناك عدداً من الظواهر المرضية، والتي لم تعد مجدية محاولات بعض رفاقنا القفز من فوقها، بعد تفنيدها وتشخيصها من قبل الرفيق الأمين العام. لكن، بالمقابل، لايزال هذا الحزب ممثلاً لنزوع أجيال الوطن والأمة كونه البقية الباقية والحصن الأخير الذي ينبغي تعزيره بالنقد – دون شك – لكن دون الوصول إلى حد التجريح.

– إن الإمعان والتركيز على السلبيات في هذه الظروف له مخاطره، فالحزب مستهدف، ومعه الوطن والشعب والنظام السياسي.

– ما يمكنني قوله في شأن الاستئناس الحزبي، كوني شاركت فيه، ونتج عن هذه العملية ما نتج، وبالحوار مع عدد من رفاقنا في مختلف الفروع، فهناك من يدعو إلى إلغاء الاستئناس، وترك القيادة تختار الأكفأ والأجدر، وفق معايير موضوعية (خبرة، شهادة، إلخ..)، وهناك من يدعو إلى إعادة عملية الاستئناس لتلافي ما حصل، أما أنا فأرى أن الوقت لا يسمح بذلك! وإذا تركنا الموضوع للقيادة – دون أخذ ما حصل بعين الاعتبار – نكون قد حكمنا على هذه العملية بالفشل كلياً، مع أن إمعان النظر في نتائج انتخابات الفروع – التي انتهت – سوف نجد أنه لا يوجد أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة وسطياً في بعض الفروع، ممن أقدموا على هذه الممارسات غير الصحية.

بالمحصلة، على جماهير شعبنا وحزبنا أن يعرفوا أن ظاهرة الانتخابات تاريخياً لا تخلو من هكذا ممارسات، وأن المرشح في الأنظمة الديموقراطية عليه ألا يتقاعس في التماس وسائل مختلفة في حلبة التنافس، وأن ننظر إلى عربة الزمن، وهي تمضي لا شك بديناميكية، ما يعني عدم حرمان رفاقنا الذين فازوا من فرحة الفوز، وبالمقابل أن نجعل الذين لم يحالفهم الحظ بالفوز مدخلاً إلى الطعن في تجربة الاستئناس، وفي القائمين عليها من كوادر وقيادات.