دراساتصحيفة البعث

تدمير القنيطرة.. شاهد على وحشية “إسرائيل”

د. معن منيف سليمان

تعدّ الأعمال التدميرية الشائنة التي قام بها العدو الصهيوني بحق مدينة القنيطرة السورية شاهداً حياً على وحشيته ونزعته الإجرامية والتخريبية، ودليلاً ساطعاً على فقدان الأمل بالسلام مع عدوٍّ قامت عقيدته على اغتصاب الأراضي والأملاك من أصحابها العرب وطردهم من مدنهم وقراهم أو تدميرها بدافع الحقد والنقمة والتعطش للانتقام.

ففي عام 1967 احتل العدو الصهيوني مدينة القنيطرة عاصمة الجولان فرزحت المدينة تحت نير الاحتلال البغيض لمدة سبع سنوات كانت أشبه إلى حدٍّ كبير بالغزو المغولي في التاريخ الوسيط وغزو النازيين في التاريخ الحديث. وبعد تلك السنوات السبع العجاف المأساوية التي عاشتها المدينة في ظل الاحتلال الغاشم تمكن قطرنا العربي السوري من استعادتها ورفع العلم العربي السوري في سماء القنيطرة المحررة على يد القائد المؤسس حافظ الأسد في السادس والعشرين من حزيران عام 1974 وسط احتفال جماهير شعبنا وأمتنا بهذا الحدث الوطني والقومي الكبير.

كان تحرير القنيطرة نتيجة مهمّة من نتائج حرب تشرين التحريرية التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد بحكمة واقتدار، وتتويجاً لبطولات قواتنا المسلحة التي خاضت معارك الشرف والعزة على مرتفعات الجولان وجبل الشيخ، وترجمة حية لتضحيات شهدائنا الأبرار الذين مزجوا دماءهم الطاهرة بتراب الجولان وثلوج جبل الشيخ، وتعبيراً عن صمود وإرادة شعبنا العربي السوري المصمم على التحرير والمضي في الطريق حتى النصر.

لقد أماط تحرير القنيطرة اللثام عن وجه قبيح طالما حاول العدو الصهيوني إخفاءه، وأوضح للعالم بأسره حقيقته الوحشية والهمجية، حيث حولت آلة الدمار الصهيونية مدينة القنيطرة إلى ركام ولم تسلم أحجار المدينة وأشجارها من وحشية هذا العدو الغاصب، حتى دور العبادة والمدارس والمشافي لم تستثن من حقد القوات الصهيونية، وأصر هؤلاء الغزاة البرابرة ألا يخرجوا من هذه المدينة وفيها شيء ينبض بالحياة، حتى إن بعض جنود الحقد الصهيوني كتب عبارات بما يسمى “اللغة العبرية” (اللغة العربية الكنعانية القديمة): “أنتم تريدون استرجاع القنيطرة، هاكم إياها مدمرة”.

استخدم المخربون الصهاينة الجرافات الضخمة والمتفجرات في عملية التخريب والتدمير المنظمة والمتعمدة، وعملوا لعدّة أيام دون توقف بتصميم وخبرة فحولوا كافة أبنية المدينة إلى قاع صفصف لكي لا يجد العائدون إليها من السكان أي مكان يأوون إليه، ورافق عمليات التخريب والتدمير أعمال النهب والسرقة فحمل الصهاينة معهم أثاث المساجد ومحتويات المحال التجارية ومولدات الكهرباء الضخمة المائية والأنابيب الخاصة بمياه الشرب والري، وقد ملأوا خزانات المياه والآبار بزيت الديزل والنفط والقاذورات، لقد نهبوا كل شيء ودمروا كل شيء وحرثوا القنيطرة حرثاً، وكأن لعنة أكلت الأرض، وما بقي من ركام يشير إلى عدو يمتلك قلباً كأتون نار، يضطرم بالحقد والبغض وضراوة الانتقام.

عندما حلّ الدمار الشامل المتعمد في مدينة القنيطرة لم يكن فيها أحد من سكانها يعارض أو يقاوم المحتل، ولم يكن ذلك الدمار نتيجة عمل حربي أو قصف مدفعي وغارات جوية وقتال شوارع بين طرفين، لقد كان المراقبون الدوليون التابعون للأمم المتحدة هم وحدهم الذين شاهدوا وتابعوا عملية التدمير والتخريب والنهب، وهذه الأعمال التدميرية والتخريبية المتعمدة تعدّ حسب مبادئ جنيف جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي، وخرق لاتفاقية فصل القوات التي عقدت في التاسع والعشرين من شهر أيار عام 1974 بين الجانبين السوري و”الإسرائيلي” ما يدل على فقدان الأمل بالسلام مع عدوٍّ همّه الوحيد الاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من الأراضي العربية، لا العيش بسلام.

كانت القنيطرة مركزاً لمحافظة تحمل اسمها في منطقة الجولان، وكان عدد سكانها قبيل الاحتلال الصهيوني لها عام 1967 ثلاثة وخمسين ألفاً، وكانت المدينة تنبض بالحياة، وتموج بالحركة، وترتقي على سلم التقدم والتطور بخطوات سريعة، وكانت القنيطرة تزخر بالمنشآت العمرانية: الدينية، والإدارية، والتعليمة، والثقافية، والرياضية، والأسواق التجارية، والأبنية السكنية، ولم تزل على هذه الحال من الازدهار حتى عبثت بها يد الدمار والخراب الصهيونية فأحالت المدينة إلى كومة من ركام الحجر والإسمنت، وكأننا في مدينة هيروشيما اليابانية.

لقد ولدت النازية الهتلرية من جديد في القنيطرة على يد الصهاينة الذين هم بحق النازيون الجدد، فالنازيون أسلافهم دمروا وارسو عام 1944 بواسطة الجرافات وقاذفات اللهب والمدفعية والمتفجرات الهتلرية، والصهاينة دمروا أيضاً القنيطرة بالطريقة نفسها وبالحقد نفسه. وستبقى القنيطرة المهدمة على حالتها هذه لتكون شاهداً حياً وتعبيراً حقيقياً عن وحشية الفاشية الصهيونية، حيث تطالب الصهيونية بإلحاح إعادة بناء القنيطرة، وذلك بالتركيز على عبارة: “إظهار النية الطيبة”، ولكن يجب أن تبقى القنيطرة المهدمة مثالاً على الجرائم الصهيونية لكي يتمكن ملايين الناس من زيارتها كما يزورون اليوم متحف “أوسوتيز” المعبر عن جرائم الحرب، وكما بقيت “أوسوتيز” يجب أن تبقى القنيطرة صورة للأجيال القادمة عن الأعمال الوحشية والإرهابية الصهيونية.

إن ذكرى تحرير القنيطرة من كل عام مناسبة تؤكد من خلالها جماهير شعبنا في القطر العربي السوري تمسكها بكل شبر من أرضها المحتلة، وتجدد دعمها لأهلنا الصامدين في الجولان المحتل الذين رفضوا ما يسمى “الهوية الإسرائيلية”، وأعلنوا الإضراب الشامل وقدموا التضحيات الجسام من شهداء وأسرى فداءً للوطن مؤكدين تمسكهم بهويتهم العربية السورية بكل فخر وعز، ومؤمنين أشدّ الإيمان بعودة الجولان إلى الوطن الأم سورية عودة كاملة غير منقوصة، لأن عودة الجولان كما قال السيد الرئيس بشار الأسد: “أمر غير قابل للتفاوض، والأرض هي موضوع كرامة وليست موضوع أمتار”. وشعبنا الذي ضحى بالغالي والنفيس في حرب تشرين لن يهنأ له بال حتى يرى كامل تراب الجولان وقد تحرر من كابوس الاحتلال الصهيوني.

وفي الذكرى السنوية لتحرير القنيطرة تجدد جماهير شعبنا في سورية الصامدة عهدها للسيد الرئيس بشار الأسد بالمضي قدماً خلف قيادته الحكيمة والشجاعة حتى تحرير الجولان كاملاً والتمسك بخيار المقاومة لأنه الضامن الوحيد لتحرير الأرض والإنسان.