ثقافةصحيفة البعث

“عندما يبتسم المخيم”.. حكايات القهر والحزن والحرمان

بكثيرٍ من الانحياز المطلق إلى الواقعية التسجيلية، والانتصار للإنسان المثخنة روحه بالقهر والخيبة والحرمان وفقدان الأمل، يبني القاص حسان علي نصوص مجموعته “عندما يبتسم المخيم”، والتي تذهب في أغلبها الأعم إلى استدعاء حكايات نراها ونعيشها في تفاصيلنا اليومية، بعيداً عن أية مواربة أو ترميز، إذ يسعى من خلالها إلى توصيف ما يعتمل في روح الإنسان الفلسطيني وما يواجهه من وجع أزلي وألم مستبد، وإصراره على مقاومة العتمة التي ترخي بظلمها وظلامها على تلك القلوب التي تشتهي وطناً وتتوق إلى حياة لا وجع فيها ولا ألم.

ولئن احتلّ المخيمُ بأماكنه وحكاياته وأحداثه ووقائعه المختلفة التاريخ، صفحات القصص الـخمس عشرة، فإن حسان علي ينزاحُ بوعي العارف إلى الشخصيات دون أي مكوّن آخر، فيجتهد في رسم ملامحها، يبرعُ حيناً ويخفقُ حيناً آخر، وكأنّ هذه الشخصيات المشتتة المتشظية هي نتيجة حتمية لتشظي الأحداث وتشتتها، والتي تقوم عليها مجمل تلك الحكايات!.

ففي قصة “الباحث عن وطن” نقف أمام ذلك الشاب الذي ترتسم صورة الوطن في عينيه، ويردّد بصمت اسم “فلسطين”، ولعلّ هذه الكلمة بالذات هي ضالته التي يبحث عنها: “الوطن أخضر وجميل، الوطن كالأم نبع عطاءٍ لا ينضب… يتابع سيره وسط حالة من الضياع والهيام” ص5.

وهنا يتقنُ الكاتب وصف حالة القهر التي يعيشها الفلسطيني وهو يرى الجنود الصهاينة يتحلقون حوله “كقبيلة هندية تمارس كرنفال رقصة النار، يبولون على التراب الذي انحنى عليه ساجداً يقبله ويلثمه وقد اختلطت ذراته بدموعه” ص11.

وفي “رسالة إلى هدى” ثمّة أبٌ نازفٌ وأم وطفلتها وبضع أشياء وأشلاء مبعثرة لوجوهٍ تكابد بصمت وقهر، لتتطاول حالة القهر في قصة “أمينة” ابنة المعتقل التي يعتصرها الألم فتقول: “ما زلت أتذكر جيداً أيام طفولتي المريرة، حيث قاسيت وعانيت مرارة الفقد والحرمان، أتذكر تماماً تلك الأحداث التي مازالت ملتصقة بذاكرتي حين كان يصطف أبناء جيران الحيّ ممن كانوا بمثل عمري، حيث كان كل واحد منهم ينتظر عودة والده من العمل” ص22.

أما في “صرخة أم” فنعيش لوعة الأم المفجوعة بابنها الرضيع (الشهيد علي الدوابشة) الذي أحرقه الصهاينة أمام عينيها في نابلس، وتحولت جثته إلى كومة من رماد: “كانت دموعها تختلطُ بأصوات الوجع والأنين ونحيب الآلام المرير.. كان كل شيء حولها ممزوجاً برائحة الموت الكريه العفن والدمار وألسنة اللهب، حيث اختلط كل شيء: اللحم الطفولي بالأثاث المحترق، واستحالت الأشياء من حوله إلى رماد” ص27.

وفي قصة “من خارج النص” يتوغلُ الكاتب أكثر في روح شخصياته التي بدت هنا أكثر قلقاً على وطنها ووجودها ومصيرها، فيقول: “ها أنتم وكما يبدو لكم ترونني أو يخيّل لكم أنني إنسان هائم على وجهي، أبحث هنا وهناك عن وجوهٍ تشبهني وربما عن وجوهٍ بريئةٍ، عن أحبة ما عدنا نراهم بيننا، عن أصدقاء، عن الأحياء وعن الشهداء..” ص35.

ويقدّم لنا في قصة “حديث المخيم” صورة الأسير الفلسطيني الذي يتقلّب في زنازين العذاب والقهر والانتظار، فيقول: “وحده الأسير يقبع في زنزانته وقد ضجرت من يديه القيود، وملّت من طول الانتظار وتألمت لصمته الجدران المهترئة.. مساءً تراه يفزع من نومه، على قلّته، تتراءى أمامه صور التعذيب التي تعرّض لها مثل كابوس” ص49.

على أن اللافت والجدير بالانتباه في قصص مجموعة حسان علي، ورغم محاولته بناءها بإحكام، هو تفاوتها الملحوظ من حيث الحكاية والأحداث وحضور الشخصيات والعنونة، ففي حين نلمس أسلوباً متقناً على المستوى الفني في “الباحث عن وطن” و”أمينة” و”حديث المخيم”، و”وقفة الألم والأمل”، و”الوصية” و”لعبة الأقدار”، تظهر سطحية بعض القصص الأخرى التي بدت غير مكتملة وتفتقر لمقومات القصة القصيرة، كما في “أغنية” التي جاءت على نسق سردي واحد وكانت منولوجاً طويلاً فحسب، وكذا الأمر في “كلمات إليك”، و”عرس الدم” الحكاية غير المكتملة التي وقفت فقط عند توصيف لحظات استقبال جثامين الشهداء، والخطاب الإنشائي الذي أرهقَ بعض مفاصله السجع غير الموظف في “اليوم الحزين”، و”لقاء” التي كانت تصويراً واقعياً مباشراً ومشاعر يترجمها الكاتب في نص يقتربُ من الخاطرة ولا يرقى أن يكون قصة قصيرة.

وعلى ما سبق يمكن القول: إن الهاجس الإنساني الذي طغى على معظم القصص، والاكتفاء بالتعبير عنه بفطرية، قد قيّدها كثيراً وحدّ من فتح أمدائها وفضاءاتها، وسيطر على مآلاتها ونهاياتها التي جاءت كما يريد الكاتب تماماً، لا كما تقتضيه الضرورة الإبداعية، إلا أن ما يشفع لكل ذلك أن حسان علي أفرد قصصه برمتها، حتى في المجموعات السابقة، للناس البسطاء الذين تخلو حياتهم من أي تحولات أو تعقيدات، وكأنهم ارتضوا أن يكونوا على هامش الحياة، يرزحون تحت نير واقعٍ مترعٍ بالوجع والألم والحزن والفقد والحرمان والخيبة، وانتظار أمل ربما سيأتي في يوم قريب ليبتسم أخيراً هذا المخيم.

يُذكر أن القاص حسان علي كاتب وإعلامي- عضو اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين- صدرت له سابقاً مجموعتان هما: “أحلام صغيرة”، و”امرأة من حياتي”، إضافة إلى مجموعته الأخيرة “عندما يبتسم المخيم”.

عمر محمد جمعة