الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أشجار الوهم..!

حسن حميد

زهاء قرن كامل مرّ على زيارة ونستون تشرشل (1874 ـ 1965) لمدينة يافا الفلسطينية، إلى الحي اليهودي (تل أبيب) الذي شرع الصهاينة ببنائه سنة 1909. كان تشرشل آنذاك وزير المستعمرات البريطانية، وقد جاء إلى مدينة يافا (التي تعد ثالث أقدم مدينة في العالم بعد دمشق وأريحا) سنة 1921، وبعد انقضاء شهور قليلة على قرار عصبة الأمم القاضي بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وقد كُلّف تشرشل بأن يقوم على تنفيذ وعد بلفور.

وصل تشرشل إلى مدينة يافا، إلى الحي اليهودي (تل أبيب/ تل الربيع) نهاراً، ولبى دعوة رئيس بلدية الحي واسمه مائير ديزنغوف لزيارة بيته، ومن أجل التحضير لاستقبال تشرشل قام الصهاينة بتزيين الشارع الموصل إلى بيت رئيس البلدية (ديزنغوف)، فأخرجوا ما لديهم من سجاجيد، وأزهار، ونباتات زينة، ولكن ذلك لم يكن كافياً إذ لا بد من الأشجار، ولأنها ما كانت مزروعة، قام الصهاينة بقطع أشجار السرو والصنوبر من حرش مجاور، وجاؤوا بها وغرزوها (بالقوة) في الأرض الرملية المقابلة لبيت رئيس البلدية حيث هي منصة الخطابات والاحتفال المزمع إقامته بقدوم تشرشل.

وحين اقتربت السيارة التي يستقلها تشرشل والسيارات الأخرى المرافقة له، تعالت هتافات الصهاينة المرحبة به، وعلت أصوات الموسيقى، واحتشد المستقبلون وتدافعوا، الأمر الذي جعلهم يحتكون بالأشجار التي غرزت جذوعها بالقوة، فوقعت، وانقلبت يميناً ويساراً على مرأى من تشرشل، الذي حدق إليها فوجدها جذوعاً من دون جذور، عندئذٍ قال لرئيس بلدية الحي اليهودي في تل أبيب: “.. من دون جذور لن ينمو شيء هنا”.

هذه الحادثة مكتوبة ومؤرخة في الأرشيف الصهيوني، مثلما هي مكتوبة ومؤرخة ومذكورة في مذكرات تشرشل الذي كان الرجل الأول الداعم للمشروع الصهيوني لكي يبقى فوق الأرض الفلسطينية حتى لو كان بلا جذور، أما الرجل الأول الذي كان على الأرض ولديه سلطات مخيفة من أجل أن يتحقق المشروع الصهيوني فهو اليهودي هربرت صموئيل المفوض السامي البريطاني في فلسطين منذ عام 1920، الذي قال بوضوح شديد، ومن فوق شرفة بلدية القدس أمام أنصاره: “جئت لكي أجعل وعد بلفور حقيقة!”، لذلك قامت ثورة فلسطين عام 1920.

زهاء قرن كامل مرّ على هذه الحادثة، ولم يعتبر الإنكليزي اليوم، ولا الصهيوني العنصري في الكيان الصهيوني اليوم أيضاً، بأن ما من شيء ينمو في البلاد الفلسطينية من دون جذور! فالكيان الصهيوني مازال غريباً، وسارقاً، ومعتدياً، ودموياً باطشاً، ومازال المشروع الصهيوني كيانية هجينة شائهة في كل شيء.. صحيح أن تشرشل في خطابه آنذاك – عام 1921 – قال إن “إسرائيل” مشروع استعماري غربي (أوروبي ـ أمريكي) ناجح جداً لو لم يكن الفلسطينيون أصحاب تاريخ، وجغرافية، وحضارة، وأن بقاء هذا المشروع رهين بالقوة من جهة، وبضعف الفلسطينيين من جهة أخرى، ولكن الصحيح أيضاً هو أن الشعب الفلسطيني، ومنذ قرن كامل، يواجه المشروع الصهيوني الاستعماري الغربي بالكفاءة الوطنية والإيمان بالحق، على الرغم مما مرّ به من ويلات، ومجازر، وطرد، وتهجير، وضغوط، وتهميش، وتجاهل، لأنه وعى مقولات كثيرة، وعرف دروساً تاريخيةً كثيرة أيضاً، وآمن يقيناً أن حقوق الشعوب لا تموت حتى لو داستها قطارات الظلموت الموحشة، لأنه من دون جذور لن ينمو شيء غريب فوق الأراضي الفلسطينية، لأن بذوره شيطانية، والأرض ترفضه، والهواء يرفضه، والضوء يرفضه، والفطرة ترفضه أيضاً.

ولأن مقاومة الشعب الفلسطيني مستمرة منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا الراهن، وعبر ثقافة جيلية متوارَثة مؤمنة بالمقاومة درباً وروحاً لاستعادة الحقوق، فإن الصهاينة يعيشون فوق التراب الفلسطيني بقوة السلاح وهم يعرفون أنهم سرّاق، وأنهم أشجار الوهم التي لا جذور لها، والتي لن تعرف حياة الخضرة والثمر والندى والظلال.. في يوم من الأيام!

Hasanhamid55@yahoo.com