سلايد الجريدةصحيفة البعثكلمة البعث

الاستئناس بين الديمقراطية والمركزية

د. عبد اللطيف عمران

لا يزال سؤال الديمقراطية حاضراً وذا شجون، مثيراً وإشكالياً في الفلسفة والسياسة، والإجابة عنه غير مستقرة حتى اليوم رغم قِدمه، ويكاد الأمر نفسه ينطبق على المركزية التي يطيب للبعض لصقها بالأحزاب الثورية ذات الطابع اليساري، في وقت تبيًن فيه التجارب أن الديمقراطية الليبرالية على هشاشتها ليست بمنأى عن المركزية على نحو ما نجد مثلاً في انتخابات الرئيسين الأمريكي ترامب والفرنسي ماكرون، حيث خيبت صناديق الاقتراع استطلاعات الرأي ومراكز الأبحاث… الخ.

أما (الاستئناس) فهو مصطلح جديد غير معهود يوطّد حضوره ووعيه كل من الديمقراطية والمركزية معاً، وهو ممارسة خاصة يغلب فيها السياسي الاصطلاحي، على النظري الفلسفي، إنه أسلوب عهده البعثيون ومارسوه منذ عقود قليلة، ولا يحظى المهتم بمعنى مستقر له معجمياً حتى اليوم، لكنه في هذا السياق يقع في الحقل الدلالي المحيط بالأنسنة، وهذا جميل ومهم.

تشكّل كلمة الرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد التي وجهها إلى الرفاق البعثيين قبيل بدء استئناس البعثيين لانتخاب ممثليهم إلى مجلس الشعب منعطفاً مهماً في صقل هذه التجربة، واستحصاد نتائجها الإيجابية، خاصة في الخلاص مما أساء إلى صورة الحزب وحضوره وسمعة كوادره ومؤسساته. وأتت النتائج انطلاقاً من توسيع قاعدة الاستئناس، ومن الإنصات إلى آراء المشجعين والمعترضين لتسفر عن غير قليل من الخلاف والشكاوى والاتهامات والمطالبات المتباينة بإعادة فرز الأصوات، أو إعادة الاستئناس، أو الاستمرار به وصقله بالممارسة والوعي، وصولاً إلى تفضيل بعض الرفاق التعيين (المركزية) على الاستئناس (الديمقراطية) إلى أن قال بعض رفاقنا: إن قيادة الحزب تربك تجربة الاستئناس و(تشّوش) عليها ليكون ذلك ذريعة إلى تحقيق طموحها في التعيين (جرّبناكم وما كنتم بحجم المسؤولية)، ولم يقبل هذا البعض الرأي الموجه إليهم: نتائج الاستئناس مهما كانت هي صورة عن ممارستكم ووعيكم وخياركم الذي يجب ألا تنسحبوا منه، ومن المسؤولية عنه.

ولا ضير في هذا، إنها الطريق الشائكة إلى الديمقراطية التي اختزلها الرفيق الأمين العام للحزب في ختام كلمته في الاستئناس: (فالديمقراطية مسؤولية قبل أن تكون ممارسة).

نعم، تعرضت كوادر البعث ومؤسساته مؤخراً وفي زمن متقارب إلى تجربتين واعدتين, رغم التباينات التي تعزز كل منهما التجربة مستقبلاً، الأولى (انتخاب) الرفاق البعثيين إلى مؤسسات الحزب القيادية، والثانية (استئناس) البعثيين لانتخاب ممثليهم إلى مجلس الشعب، ويرى أغلب رفاقنا ضرورة الاستمرار في هكذا تجربة حتى يتم وعيها وصقلها، إذ لا عودة عنها، بل يجب استكمالها حتى في الحياة العامة (فلطالما كان البعث هو المؤسسة العقائدية المهمة في المجتمع والدولة)، فبالرغم مما أثير فإن التداعيات إيجابية، ولاسيما أنها طرحت أسئلة يجب أن يكون الحزب قادراً على الإجابة عنها، ولاسيما أنها وضعت اليد على جراح مفتوحة فاغرة ومتروكة من زمن.

إنها تجربة بمثابة مخاض مستمر لن يكون الوليد معها أبداً قزماً.

وبمتابعة الوسائل الإعلامية في دار البعث تغطيتها الإعلامية لمجريات الاستئناس تبيّن ارتياح جماهير شعبنا وحزبنا لهذه التغطية ولاسيما بجانبها النقدي، إذا أتاح نشر مختلف الآراء، نشراً تبين معه أن الأرض لا تزال عطشى إلى السؤال والجواب، وأن الحزب قادر على أن يرويها لكن (بتاريخه وليس بواقعه)، فقد تم نشر بعض الآراء التي انتقل رفاقنا فيها من النقد إلى (الانتقاد) كظاهرة مثقلة بشحنة عاطفية مفعمة بالتقريع وبأحادية الرؤية، رأى عدد غير قليل من رفاقنا أنها (ظالمة) ورأى آخرون لا شك أنها الحقيقة، وهنا علينا أن نفرق بين الظاهرة النقدية، وبين الرؤية الانتقادية، مفيدين من رأي أديب الواقعية الاشتراكية الكبير وناقدها مكسيم غوركي إذ قال: (اقتلوا هذه الواقعية الانتقادية) وجميعنا يعلم خطر سيادة النهج التشريحي التفكيكي على الجانب البنائي المنشود، ولعل هذا أهم نقد قوّض فلسفة ما بعد الحداثة، وبعدها ومعها تجربة البروستريكا.

نعم كان الاستئناس، والانتخاب قبله سجالاً، اختزله مثلاً أحد رفاقنا غير الفائزين في استئناس فرع طرطوس للحزب بقوله: لم يعد يهمنا من نجح ومن لم ينجح جراء هذه التجاذبات، ما يهمنا هو أن يبقى حزبنا ملاذاً لنا ولأبنائنا، وأن نكون جميعاً أعضاء ومؤسسات على قدر وعي وتنفيذ توجهات وتوجيهات الرفيق الأمين العام للحزب.

كما قال رفيق من الفائزين في فرع ريف دمشق: أنتم تريدون من ممثلكم ألا يكون أحد من ذويه مسؤولاً أو فاعلاً في المجتمع والدولة، وألا يكون ناشطاً متميزاً ولا ديناميكياً، وألا يمثل شريحة اجتماعية أو مهنية… إنكم تريدونه مقطوعاً من شجرة, فكيف يكون هذا ممثلكم وفي مجلس الشعب؟!.

رفيق آخر قال: بيّن الاستئناس (البعثي) أن رأس المال وحش كيفما تحرّك، همّه الذاتي أكبر من همّه الوطني، كل شيء عنده يباع ولا خلاف إلا على السعر، رد عليه آخر: هل تستطيع أن تنكر -بعد القراءة والتدقيق- الدور التاريخي للارستقراطيات في بناء الهوية الوطنية؟..

أما الرابع صاحب المقال المنشور (الاستئناس) دروس وعبر، فبيّن كيف (انقسم البعثيون إلى بعثي: عادي- مسؤول- فاسد، والمسؤول لا يكون بحسب الكفاءة أو السابقة النضالية، بل بحسب الحظوة والقرابة والولاء الشخصي وتبادل المنافع، أي بحسب كل ما ثار عليه البعث سابقاً).. الخ مما هو أكثر قسوة، وسطوة للشحنة العاطفية. إلى درجة رد فيها بعض رفاقنا: إذا كان هذا هو رأي قيادة الحزب وإعلامه فإننا نناشدكم أن تحققوا معنا أو تريحونا.. نحن لسنا هكذا.. نحن بشر نخطئ ونصيب، ما ذنبنا إذا لم تسفر عملية الانتخاب أو الاستئناس بالضرورة إلّا عن فوز عِشْر المرشحين فقط؟!.

بالمحصلة نجح الاستئناس كتجربة، والخلاف هو في اتجاه هذا النجاح، وهو خطوة مهمة في تحقيق الموازنة الصعبة بين الديمقراطية (الانتماء الطوعي إلى الحزب كخيار فردي ديمقراطي) والمركزية (الالتزام بالاتجاه العام لسياسة قيادة الحزب بهدف تعزيز الوحدتين التنظيمية والفكرية).

وعلى هذا الأساس مازال رفاقنا ينتظرون كيف ستقرأ قيادة الحزب نتائج الاستئناس، ولا شك في أن المرشحين المستقلين هم على ترقب أيضاً.. وجميعنا مع الثقة والعمل والأمل الوطيد في طريقنا المنطلقة من الصمود إلى النصر القريب.