ثقافةسلايد الجريدةصحيفة البعث

“حوادث دمشق اليومية”.. صورة صادقة عن المدينة

دوّن أحمد البديري الحلاق الدمشقي في هذا المخطوط  “حوادث دمشق اليومية” خلال إحدى وعشرين سنة، الواقعة بين سنتي 1154 و1175 هـ/1741و1762م، وقد شهد أحداثاً انفعل بها، فانكب على أوراقه يسجل ما شهد وما سمع يوماً بعد آخر، وقد سجل رأيه في الناس وفي الحوادث، أو الرغبة في الإفادة لمن يأتي بعده، هذه صورة صادقة لقطاع من حياة الناس في دمشق في أواسط القرن الثامن عشر.

ذكره منقح الكتاب في البداية باسم “شهاب الدين أحمد بن بدير البديري الشهير بالحلاق”، وقد حرص البديري الحلاق على أن يسجل وفاة رؤساء الطوائف ونقباء الحرفيين، إلى جانب من ذكرهم من العلماء وأرباب الطرق المتصوفة وأصحاب الكرامات، مثل: “رئيس الحلاقين، رئيس الدباغين، نقيب النقباء على الحرف والصنايع والطرق، وغيرهم من مشايخ الحرف).

والبديري لم يتحدث كثيراً عن نفسه وعن أسرته، وقد وُلِدَ في محلة القبيبات، وهي ضاحية من ضواحي دمشق تقع إلى الجنوب الغربي منها، ونشأ في بيئة متديّنة، مبجّلاً العلم والعلماء والمتصوفة وأرباب الكرامات، ودائماً يشكو من شدة الغلاء وارتفاع أثمان المواد الغذائية، وكان ارتفاع ثمنها أو خفضها مقياساً لعدالة الحكم أو فساده، وذلك لأنه ردّ الغلاء إلى جشع الحاكمين وتكالبهم على تخزين المواد، وإهمال القاضي التفتيش على الأسواق، وخفض الحكومة قيمة العملة، “وكانت هذه السنة غلاء في الأقوات وغيرها، حتى بلغت اوقية السمن بخمس (مصاري)، (نقود كانت تسك في مصر) ونصف، ورطل الأرز بست عشرة مصرية، اوقية الشعير بثماني (مصاري)، والخبز الأبيض باثنتي عشرة مصرية، ورطل الكعك بأربع عشرة مصرية، والخبز الأسمر رطله بخمس (مصاري)”.

وأحياناً كان يرصد قومة أهل البلد من أجل لقمة العيش “قامت العامة وهجمت على المحكمة وطردوا القاضي ونهبوا الأفران، وسبب ذلك كثرة الغلاء، والازدحام على الأفران، وقلة التفتيش على صاحب القمح والطحان والخزان، فتلاقى حضرة الوالي سليمان باشا هذا الأمر، وأرسل يشدد على الطحانة والخبازة ويهددهم ويخوفهم، وحالاً وجد الخبز وتحسن وكسد، فابتهلت الناس بالدعاء لحضرته”.

ملأ البديري كتابه بنقد المجتمع الدمشقي على عهده لما شاع فيه من فساد، ويبدو أن طوائف العسكر وانفلات الأمن قد أشاع جوّاً من الفساد الأخلاقي، فكثرت “بنات الخطا”، وتبرجن وجاهرن بالمعصية في الشوارع ومعهن الدلاتية والفساق.

هذا الجو المليء بالفساد، ضاق به صدر البديري الحلاق، وكثيراً ما رفع يديه شاكياً ناعياً على الحكام إهمالهم، ويصرخ: “فانظروا يا مسلمين إلى هذا الإنصاف، وقولوا: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف”.

والبديري كان شاعراً شعبياً، فقد نظم المواليا في أغراض مختلفة، فمنها ما نظمه في حق الذين يظهرون الكذب من أهل الشام:

من جهة الزلزلة قالوا كلام الريب               هم الملاعين صاروا يعلموا بالغيب.

ومنها ما نظمه عندما حارب أسعد باشا العظم جند الانكشارية المحلية، وتتبع رؤوسهم بالقتل والتشريد، وقد زينت البلد، والمدافع تضرب صباحاً ومساء مدة شهرين، والنوبة مع الألعاب النارية، وكفى الله المؤمنين القتال، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.

وقد نظم المواليا في المناسبات الخاصة، فقد خرج يوماً في نزهة إلى ناحية تطل على المرجة، وقضى يومه في سرور وانبساط حتى جادت قريحته بموّال وصف فيه يومه:

مضى لنا يوم مثله ما سبق يا خال              في مرجة الشام ما تشوفون موضع حال.

إن حوادث دمشق اليومية تصوّر الحياة خلال إحدى وعشرين سنة، وقد كاد المؤلف أن يقصر اهتمامه على تدوين ما جرى في دمشق من تولي الباشاوات وكبار أصحاب المناصب وعزلهم ومصادرة أموالهم، كالمتسلم دفتر دار القاضي والمفتي وأغوات العسكر، وأخبار الحاج في طلوعه وعودته، وما جرى له في الطريق، وفتن الأطباء، ونهوض الأسعار، واضطراب الأمن، وفساد الأخلاق، وانتشار الأمراض، وغزو الجراد، ووفاة متصوف أو نقيب حرفة، وحدوث ظواهر طبيعية من ربح شديد وكسوف وخسوف وزلازل، ويسجّل أيضاً بعض ما كان يصل إلى علمه من أحداث تجري في دمشق أو قريب منها، كحروب الباشا ضد الدروز، أو المتاولة أو بعض عشائر البدو، أو ظاهر العمر شيخ طبرية، أو ما يتسامح به الناس عن فتنة في بغداد أو حرب بين الدولة وفارس أو بين أشراف الحجاز.. إلخ.

والمخطوط يصوّر لنا دمشق كحاضرة إسلامية تكوّن وحدة سياسية وإدارية واقتصادية قائمة بنفسها، زاخرة بالحركة والنشاط، فلها أدوات الحكم الخاصة بها، ولها قلعتها وسورها، ولها أجنادها، ولها علماؤها، ومتصوفوها ومساجدها وأحياؤها وحاراتها وطوائف حرفها، ففيها كل العناصر التي كوّنت منها حاضرة تستطيع أن تكفي نفسها بمواردها الخاصة.

والمخطوط صورة عامة للعصر الذي عاش فيه البديري، وهي صورة تنطبق على دمشق كما تنطبق على حلب والقاهرة وبغداد، وغيرها من حواضر الولايات العربية، لأن النظم الأساسية للحكم واحدة، والأوضاع العامة لمجتمعاتها واحدة.

فيصل خرتش