ثقافةصحيفة البعث

الفلسفة العربية

محمد راتب الحلاق

الفلسفة أم العلوم، بل أم الآداب والفنون والثقافات والإنجازات الإنسانية اللامادية جميعاً. والفلسفة ليست موضوعاً للدراسة بقدر ما هي منهج للتفكير، ولا تقدم حلولاً بقدر ما تثير أسئلة تهدف إلى بلبلة الطمأنينة الفكرية، لتشجيع الإنسان على ممارسة الانتقاد والاستمرار في البحث عن الحقيقة، مما يبقي فعل التفلسف طازجاً ونضراً باستمرار. والفلسفة لا تتقدم عن طريق الوصول إلى الحقائق وإنما عن طريق طرح المشكلات بصورة أشد وضوحاً وتحديداً، أما الوصول إلى الحقائق والقوانين فمن شأن العلم، دون أن يخطر ببال أحد أنه سيأتي يوم لن تجد الفلسفة ما تبحث فيه، لأن ما يجهله الإنسان أكثر من الذي يعلمه. ثم إن العلوم عادت من جديد إلى أصلها الفلسفي وبدأت تشتغل على ذاتها وبذاتها شغلاً فلسفياً، كما في الأبستيمولوجيا. ولم يعد مطلوباً من الفيلسوف المعاصر  بناء نظام فكري شامل، من دون أن يعني ذلك أنه  قد تحول إلى مجرد ناقد للمفاهيم، اللهم إلا إن كان هذا الانتقاد منطلقاً من رؤية شمولية واضحة تتجاوز خصوصية تلك المفاهيم ولا تحصرها في نطاق علم بعينه.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان للعرب فلسفة خاصة؟ وللإجابة أقول: نعم كانت للعرب مشاركة هامة في النشاط الفلسفي، مثلهم مثل أية أمة لها حضارة خاصة، رغم أن كثيرين يرون أنهم كانوا مجرد سعاة بريد قاموا بنقل الفلسفة الإغريقية إلى أوربا، لأن العقلية السامية غير مؤهلة للتفلسف حسب زعم رينان؟!. وأخذت الفلسفة العربية الإسلامية اسمها من كونها عربية اللسان إسلامية المناخ القيمي الذي تحركت فيه.

وهذه الفلسفة أصيلة، لها شخصيتها المتميزة والمستقلة، ولها مشكلاتها التي انفردت بها، ولها حلولها الخاصة التي قدمتها لتلك المشكلات: “مشكلة التوحيد، والعناية الإلهية، والقضاء والقدر إضافة إلى المشكلات التي بحثتها الفلسفات السابقة، والمتعلقة بالوجود والنفس والحرية والروح، ونظرية المعرفة، ومعايير التفرقة بين الخطأ والصواب…إلى آخر المشكلات الفلسفية الكبرى” كل ذلك بهدي من الثقافة السائدة؛ الأمر الذي يجعل القول بأن الفلسفة العربية ليست إلا الفلسفة الإغريقية بعد أن تم إلباسها عباءة عربية قولاً متهافتاً، فالفلاسفة الذين كتبوا بالعربية لم يكونوا مجرد ناقلين لأفكار فلاسفة الإغريق، بدليل أنهم استدركوا عليهم في مسائل كثيرة: “مسألة الألوهية، وقدم العالم، وخلود الروح، وتفسير النبوة..” وكانت معالجتهم لهذه المسائل أصيلة وطريفة.

ومع ذلك، فقد واجهت الفلسفة كثيراً من العنت والمقاومة في المجتمع الإسلامي، حال بقية المجتمعات التي يخاف المسيطرون فيها من الفكر الحر، مما حال دون تقدمها بالدرجة ذاتها التي تقدمت فيها تيارات الفكر الأخرى،  التي لبست لبوس الدين بصورة مباشرة. الأمر الذي دفع الفلسفة لأن تبذل ما في وسعها لتقديم “فصل المقال لما بين الحكمة والشريعة من اتصال”، وللبرهان على تعاضد العقل والنقل للوصول إلى الكمال الإنساني حسب الطاقة البشرية، من دون أن يعني ذلك وحدة المنهج في البحث. بل إن الفلاسفة العرب قد جاهدوا جهاداً عظيماً من أجل تأصيل الفكر الفلسفي، والتصدي للمتزمتين، كل ذلك أعطى للفلسفة العربية هويتها الخاصة، وقد أخطأ بعض مؤرخي الفلسفة حين ظنوا أن الفلاسفة العرب قد انشغلوا في بحث العلاقة بين العقل والنقل، والتوفيق بينهما، دون أن يفطنوا إلى ما تميزت به الفلسفة العربية من أصالة انتقادية عميقة، تعبر عن روح الفكر الفلسفي الأصيل، وربما لم تكن عند هؤلاء المؤرخين الرغبة في الإشارة إلى ذلك.