ثقافةصحيفة البعث

التاريخ يعيد نفسه..!!

في كل مرة كنت أسمع عبارة التاريخ يعيد نفسه، كان تفكيري يذهب إلى الأحداث التاريخية التي لطالما قرأناها في الكتب وتعلمناها في المدارس، أما اليوم ونحن نحتفل بعيد جريدتنا “البعث”، اكتشفت أن العبارة نفسها لها معانٍ كثيرة وجميلة وربما تفاجئك لدرجة أنه بالفعل الأشياء الجميلة تتكرر.

أمضيت في جريدتي عشر سنوات، تعلمت فيها ومنها وكونت علاقات كثيرة مع أصدقاء وفنانين وأدباء ومفكرين، إلا أن تجربتي تعتبر صغيرة أمام الأشخاص الذين عملوا فيها منذ عدة عقود، وكان لوالدي هذه الفرصة بالعمل في هذه الجريدة العريقة، والمفاجأة كانت أنني أنا ووالدي عشنا التفاصيل نفسها، في المكان نفسه لكن بزمنين مختلفين.

وفي حديثه لي عن تلك الفترة، بدأ بالقول: ولماذا لا تعمل في التحرير؟ فاجأني بابتسامته الجادة، وبنبرته الواثقة التي داهمت وقتها هدوئي الطبيعي، وبسؤاله الاستنكاري الذي لايزال يرن صداه في أذني. ولماذا أتردد وأنا الذي يطمح إلى مثل هذا العمل؟ لكن عالمه المغلق لم يكن ليشجعني على محاولة اقتحامه، وفرصة الوصول إليه لا تتعدى الاقتراب من أسواره.

هل صحيح أن لديكم فرصة للعمل في الصحافة؟ وهل أفهم أنك تمنحني هذه الفرصة؟ بكثير من السعادة وشيء من اضطراب الباحث عن ضالته، حاولت أن أثبّت ما سمعت وأن أسمع ثانية ما عرض.

طبعاً، من خبرتي في العمل الإعلامي أرى أنك ستكون ناجحاً فيه، ومن معرفتي بك أعتقد أنك تصلح لمهنة المشقة والمتاعب.

هكذا كان ختام لقائي بأبي طارق – رحمه الله – وكان حينها مسؤولاً عن التحرير في جريدة البعث. وهكذا جاءتني ما تسمى بالفرصة الذهبية.

بدأت تجربتي بالعمل متدرباً متنقلاً بين أقسام الجريدة المختلفة من أرشيفها واستماعها إلى تحريرها وعملها الميداني، لأستقر أخيراً في القسم الثقافي الذي بقيت أعمل فيه لسنوات قبل أن أسافر لتحضير الدكتوراه في الأدب والنقد في فرنسا. كان الوسط الثقافي لا يزال يحافظ على وجوه من ألقه الذي كان متوهجاً في العقدين السابقين، وكان العمل الصحفي –صحيح أنه مصنف في خانة المتاعب- لكنه يحمل من المتعة ما يفوق تعبه اللذيذ.

اجتماعنا على قهوة الصباح في القسم الثقافي بالطابق السابع أصبح إدماناً يومياً يحاول كل منا ومن زملائنا في الأقسام الأخرى ألا يفوته، إنه لقاء الأصدقاء لتداول الأخبار العامة والأنشطة الثقافية والإصدارات الجديدة من الكتب والمطبوعات والمجلات. وكان أبو محـمد عامل البوفيه بملامحه الصلبة ووجهه العبوس وقلبه الطيب لا ينتظر طلباً لإحضار القهوة، بل كان يحضر للقادم الجديد فنجانه بمجرد أن يستقر على كرسيه.

ما هي مشاريعكم اليوم؟ وماذا أعددتم لعدد الغد؟ هل أنهيت مقالتك التي بدأت بها البارحة؟ ما أصداء محاضرة فلان التي حضرتها البارحة؟ هل قرأت كتاب فلان أو رواية علان أو.. أو.. المنشور مؤخراً؟ هكذا تمضي الساعة الأولى من وجودنا في الجريدة نتبادل فيها الأفكار والآراء نخالطها بعدد من الطُرَف وبشيء من المزاح، لتنفض الجلسة ويذهب كل منا إلى عمله.

كانت الجريدة في ذاك الزمن مقصداً للأدباء والفنانين والمثقفين والكتاب المهتمين بالنشر، فمن متابع لمادة يريد نشرها إلى قارئ لمادة يعترض عليها ويرد على محتواها، إلى ذاك الذي نشر للتو عملاً جديداً يقدم للقسم الثقافي نسخة منه… الخ، وكانت الحوارات التي تدور معهم فرصة لالتقاط مواد جديدة للصفحة الثقافية. ولا أنسى أبداً تغطيتنا في القسم للنشاطات والندوات الثقافية التي كانت دائمة الانعقاد في المراكز والمؤسسات الثقافية المختلفة، وأخص بالذكر هنا مهرجان دمشق السينمائي ونظيره المسرحي والمواد والزوايا التي كنا نكتبها في الساعات الأخيرة من المساء كي لا نفوت على القارئ –الذي كان متابعاً مهتماً لهذه الأنشطة وللأمور الثقافية والأدبية والفنية عامةً- أي مادة تتعلق بفعاليات المهرجان. وكنت شخصياً أعد خلال أيام المهرجان، إضافة إلى المقابلات والمواد المتعلقة بالأعمال المعروضة، لقطاتٍ للصفحة الأخيرة تستعرض الأخبار غير المعلنة والخفايا التي تدور في أروقة النشاط، خاصة وأن عدداً كبيراً من الفنانين والنقاد والممثلين النجوم السوريين والعرب والأجانب يحضرون هذا المهرجان بدوراته المتلاحقة.

تاريخ قليل امتد لسنوات أسهمت خلاله مع زملائي بتغطية واسعة للعمل الثقافي، وبتحرير مواد أدبية وأخرى منوعة على صفحات الجريدة، وبالمشاركة في إعداد كتاب عن تاريخ الجريدة بمناسبة ذكرى صدورها للعام السابع والثلاثين عدت حينها إلى الأعداد الأولى من الجريدة فأزحت عن صفحاتها الغبار، ونقلت بعضاً منها إلى الكتاب.

غادرت العمل في الجريدة، لكن تواصلي مع زملائي السابقين لم ينقطع واستمر إلى اليوم، كما أن صلتي بالجريدة نفسها تجددت بعد أن تسلم إدارتها أخي وصديقي الدكتور عبد اللطيف عمران الذي تشاركنا سوية أيام الدراسة والعمل الصحفي ثم العمل الأكاديمي.

جمان بركات