ثقافةصحيفة البعث

الهويّة الثّقافيّة بين التعريب والتغريب

يقول أمبرتو إيكو: “لا يمكن وصف بنية فنية إلا بتأويلها، وكل إفادة عن بنية الرسالة هي محاولة لتأويلها”، فعندما نصف الجنس الأدبي لنصٍ يكون ذلك مقدمة لفهمه، واستدعاءً لحساسية القارئ تجاهه. وتأكيد الهوية الثقافية لنصٍ ما قابلة للتغيير بالمعنى في المجال أو الوسط البيئي، وبشكل أوسع في المحيط التاريخي الذي يحكم ولادة النص والمتلقي، ولا يقوم الجنس الكتابي الأدبي على معيار واحد، بل على مجمل علاقات بنيوية دائمة التبدل ومنسجمة مع تنوع أساليبها، ولهذا، فالجنس الأدبي يختلف من مجتمع وبيئة إلى آخر، على اعتبار أنه حالة ثقافية، تعبّر عن رؤية خاصة للعالم، عبر تمرد النص على تحديد هويته خارج المألوف في إطار تحولات نظام الأدب، من خلال ترتيب جديد لعناصره، بعض النصوص التي تتمّ ترجمتها تغادر تجنيسها الأصلي، وتأخذ شكلاً آخر كما يحصل غالباً مع الأعمال الشعرية المترجمة، فتفقد جزءاً مهماً من إيقاعها الذي يتبدى باللغة الأم، ومما لاشك فيه أن نظرية الأجناس الأدبية ليست وليدة الترجمة فقط بل الكتابة بحدّ ذاتها، لأن تطور الشكل الأدبي هو تطور للأدب وقراءته.. أستحضر هنا، تجربة الشاعر والكاتب والناقد الفنّي الراحل صلاح ستيتية الذي كتب الشعر بالفرنسية بروح عربيّة واعتبرته الثقافة الفرنسية واحداً من بين خمسة من كبار الشعراء الذين يكتبون بالفرنسية، وتُرجمت معظم أعماله إلى لغات أوروبية، مثلما إلى العربية. وقد منحته الأكاديمية الفرنسية عام 1995 الجائزة الكبرى للفرنكفونية.

ربما أكثر ما يميّز ستيتية أن اللغة عنده كائن مستقل وساحر ومليء بالأسرار، ومولّد للإبداع في سعي لإيقاف الزمن وجعله أبدياً، وفي بحث طبيعة تركيب نصوصه نجد أنه يسعى لإيجاد لغة مبتكرة لا تحاول التوفيق بين هويّات رؤيته الثقافية المتعددة وحسب، بل يعمل على إيضاح مفهومه للكتابة وهو ما تَجسَّد في سلسلة مجاميعه الشعرية.. في شعره كما في نثره، يتقصّى اللغة والكلمة والفكرة والصورة ويتلمس علاقة الشعر بالوجود وبالعدم، ومنها علاقة العالم العربي بالعالم الغربي. يقول ستيتية: “إنّ الشعر كان دائماً المعادل لحياته، وهو الذي يعطي أجنحة للحياة، أي أنه يعطيها مدى وتوجُّهاً” موضوع كتاباته واحد ومتعدّد معاً، لدرجة يصعب ضبطها وبالتالي تصنيفها ضمن جنس معيّن أو نوع، فهو يستبدل الوسيلة الشعرية بوسيلة لغوية أخرى لا تقلّ شاعرية، أو قدرة  على الكشف العميق.. ستيتية المعروف بانحيازه وتأثره بالمتصوف جلال الدين الرومي، عمل جاهداً على تقريبه إلى ذائقة القارئ الفرنسي عبر شعره. يقول: “إن أهم وردة في الباقة هي الغائبة، وقد اكتشف ذلك الشاعر الجاهلي بكل عفوية وفطرية، الكلمة عند الشاعر الجاهلي تقول الشيء وتنفيه في آن واحد، وهذا هو جوهر الشعر بأكمله، الوجود ونفي الوجود متوافران داخل الوجود كما في داخل اللغة كفنٍ عالي الإيجاز في المسافة الفاصلة بين الحياة بكلّ تفاصيلها والموت بكلّ أبعاده.. كما جاء بمجموعته (المحروس الماء البارد).

من سينقذ هذه البلاد من ضوضاء/ جنود يتقدمون تحت النصر لكي يستأصلوا/ الماء المحروس البارد- ولكي يأخذوه..؟ /أيها النهر يا ضوئي الوديع المعرّى/ فوقك السماء القويّة.. إنها السماء الأُخرى/ لا سماء الإسفنج الأزرق” هكذا جاءت كتابات ستيتية الإبداعية كتمازج خلاّق مع الشعراء الفرنسيين الكبار أمثال رينيه شار، وسيوران، وإيف بونفوا، جوف ماندرياغوس، أونغاريتي، وديفيد غاسيوف، بيار جان جوف، أندريه بيار دومانديارغ، أندريه دو بوشيه، وغيرهم، وهو لم يكتب قصيدته إلا عندما امتلك أدواته الأسلوبية وصوته الخاص، حيث أقام علاقة تبادلية مع اللغة، وبالتالي الثقافة الفرنسية أخذ منها ومنحها أيضاً، وقد يكون أهم ما قدمه لها هو إعادة إحياء الغنائية التي افتقدتها اللغة الفرنسية هو وإيف بونفوا وفيليب جاكوتيه. ليبقى السؤال الأهم: هل يعبّر شعره المترجم إلى لغة الضاد عن جوهره؟.

لاشك أنه لم يصلنا من شعره سوى القليل من المعاني، لأنها موجودة باللغة الفرنسية تلك اللغة التي أنتج شعره بواسطتها، وعلى الرغم من أنه أمضى حياته في الغرب، فقد انتهى به الوعي إلى البحث عن جذوره وهويته، كما في كتابيه «حاملو النار» و«الليلة الوحيدة».

ولابد في النهاية من الإشارة إلى أن الترجمة لم تنجح بنقل ذاك البريق الإبداعي لأن النص مكتوب بمنطق اللغة الفرنسية وسياقها الأدبي والشعري، وهكذا ظل ستيتية موزعاً بين ثقافتين، ولغتين، فهو في نظر الغرب، شاعر متمرد لأنه ضد تبسيط اللغة الشعرية وأيضاً كتاباته بالفرنسية طوال تلك السنوات، أثّرت بطريقة أو بأخرى على حضوره لدى القرّاء بالعربية والعالم العربي حيث لم ينل حقّه هنا، رغم ترجمة دواوينه وكتبه للعربية وفي النهاية، ستيتية شاعر حمل شعلة التوهج وتمزق إبداعياً بين ثقافتين ولغتين.. نال جوائز مهمة  كماكس جاكوبو، الجائزة الكبرى للفرنكوفونية عن مجمل مؤلفاته، وجائزة مهرجان الشعر الدولي، كما أُضيف اسمه إلى معجم «لاروس» الشهير، وشغل مناصب دبلوماسية عدّة عمل فيها مستشاراً ثقافياً في السفارة اللبنانية، ومندوباً في منظمة اليونسكو.

سمر محفوض