دراساتصحيفة البعث

حكاية السرد الإعلامي ضد روسيا..!

ترجمة وإعداد: علاء العطار

 

في حلقة من برنامج “فريدَم ووتش” عرضت في كانون الأول عام 2010 على قناة فوكس نيوز، كان جون بولتون وضيف البرنامج أندرو نابوليتانو يتجادلان عن التسريبات الأخيرة لموقع ويكيليكس، وتطرقا بطبيعة الحال لموضوع السرية التي تتبعها حكومة بلدهما.

وقال بولتون في معرض ذلك: “الآن أريد أن أدافع عن السرية في الحكومة عندما يتعلق الأمر بتسيير شؤون الأمن القومي، وربما لاستخدام الحيلة حيث يكون ذلك ملائماً، كما تعلم، قال وينستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية إن الحقيقة في زمن الحرب مهمة للغاية، حتى إن أسواراً من الأكاذيب يجب أن تحيطها”.

فسأله نابوليتانو المفطور على الشك: “أتؤمن بذلك حقاً؟”.

أجابه بولتون: “قطعاً”.

سأله نابوليتانو: “هل ستكذب بغية إخفاء الحقيقة؟”.

أجاب بولتون: “إن وجب عليّ أن أقول شيئاً أعلم أنه باطل لحماية الأمن القومي الأمريكي فسأقوله”.

فطرح عليه نابوليتانو سؤالاً آخر: “لماذا يظن مسؤولو الحكومة أن قوانين المجتمع أو قواعده لا تنطبق عليهم؟”.

رد عليه بولتون: “لأنهم لا يتعاملون مع المجتمع المدني الذي نعيش فيه بموجب الدستور، بل يتعاملون في بيئة فوضوية دولياً تحكمها قواعد مختلفة”.

احتج نابوليتانو على ذلك بقوله: “لكنك أقسمت على صيانة الدستور، وينص الدستور على درجة مصارحة محددة، ودرجة وضوح معينة، فهل أنت مستعد للتخلي عن ذلك بغية تحقيق هدف عسكري مؤقت؟”.

قال بولتون: “كما قال القاضي جاكسون في قرار شهير اتخذه، الدستور ليس ميثاق انتحار، وأنا أتفق معه، وأظن أن الدفاع عن الولايات المتحدة من التهديدات الخارجية يتطلب إجراءات قد نجدها منافية لأخلاق المهنة في بيئة عمل عادية في الولايات المتحدة، لذا لن أقدم أي اعتذار عن ذلك”.

إن بولتون محق لدرجة معينة، ليس محقاً بالطبع في عمله الدنيء في استعمال الأكاذيب للترويج للأجندات العسكرية التي تبدو وكأنها محاولة واهنة لتسويغ التدابير السيكوباتية التي اتخذها لتضليل العالم بغية الموافقة على الغزو الخبيث للعراق الذي لا يمكن لشيء أن يكفّر عنه، إنه محق بأن النزاعات بين الدول تحدث في “بيئة فوضوية دولياً تحكمها قواعد مختلفة”.

لدى كل أمة حكومة تسن قوانين وتطبقها، ونظراً لعدم وجود حكومة مودة تحكم كوكبنا، فإن التفاعلات بين هذه الحكومات فوضوية لدرجة كبيرة، وليس بطريقة صالحة.

لا يوجد ما يسمى “القانون الدولي” في الواقع بصورة هادفة إلا إلى الحد الذي يكون فيه المجتمع الدولي مستعداً بشكل جماعي لوضعه موضع التنفيذ، يعني هذا من الناحية العملية أن الدول التي لا تملك تأثيراً على الروايات السائدة في المجتمع الدولي هي وحدها التي تخضع “للقانون الدولي”، لذلك نرى المحكمة الجنائية الدولية تحكم على زعماء الدول الأفريقية بالسجن بتهمة ارتكاب جرائم حرب، لكن الولايات المتحدة بإمكانها أن تفلت من عقوبات كادر المحكمة الجنائية الدولية إن حدث وتحدثوا عن التحقيق بجرائم الحرب الأمريكية، ولم يعانوا من أية عواقب، وقال نعوم تشومسكي إنه لو استمر تطبيق قوانين نورمبيرغ بعدل واستقامة، لشُنق كل رئيس أمريكي شن حرباً.

ولهذا السبب أيضاً تُبذل الكثير من الجهود للسيطرة على الرواية الدولية السائدة عن دول مثل روسيا التي رفضت الانغماس في تحالف القوى الأمريكي، وإن كنت تملك النفوذ والقدرة على التحكم بالروايات التي يصدقها المجتمع الدولي بشأن سلوك دولة مستهدفة، فبمقدورك أن تفعل أشياء كتأليف تحالف دولي يضع عقوبات اقتصادية قاسية من النوع الذي يطالب به زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر حالياً ردّاً على الرواية الكاذبة التي تقول إن روسيا دفعت لمقاتلي طالبان مكافآت لقتل قوات الاحتلال الأمريكي في أفغانستان.

في حربهم البطيئة المستمرة على الدول التي ترفض الانغماس في تحالف القوى الأمريكي، تفعل مجموعة الحلفاء الصغيرة هذه كل ما يلزم لتقويض روسيا وتخريبها في محاولة لإبعادها عن المسرح العالمي، وإلغاء الدور الذي تلعبه في معارضة تلك الحرب، وتقديم أكبر عدد ممكن من الروايات عن قيام روسيا بأعمال شائنة على المسرح العالمي يُنتج موافقة على قيام تعاون دولي لتحقيق هذه الغاية في صيغة حرب اقتصادية، وصراعات بالوكالة، وتوسع الناتو، وغيرها من التدابير الخسيسة، ناهيك عن ذكر السماح لسباق تسلّح جديد من خلال اغتيال آخر معاهدة نووية بين روسيا والولايات المتحدة، وضمان استمرار الوجود العسكري الامبريالي في أفغانستان.

لم يعرض أي دليل على دفع الروس مكافآت في أفغانستان، وعلى الأغلب لن نرى دليلاً أبداً، لكن هذا لا يهمنا فيما يخص وكلاء الدعاية الامبريالية، فهم يعرفون حق المعرفة أنهم لا يحتاجون إلى حقائق فعلية ليدفعوا المتلقي إلى تصديق قصتهم، بل جلّ ما يحتاجون إليه هو التحكم بالسرد، وكل ما يحتاج وكلاء الدعاية إليه هو تكرار حديثهم بأن روسيا دفعت مكافآت لقتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان بنبرة جازمة وموثوقة، وسيبدأ الناس بعد فترة بافتراض أنها صحيحة.

وسيضيفون في كل مرة بيانات جديدة إلى روايتهم، بيانات لن يشكّل أي منها دليلاً دامغاً على ادعاءاتهم، ولكن بعد نشرهم ما يكفي من القصص الصادمة، وسردها بنبرة جازمة ومنذرة بالسوء، سيبدأ الناس بافتراض أنها حقيقة مثبتة، حينها سيكون بمقدور مديري هذه الحملة الدعائية أن يلوحوا بمعلومات متباينة وغير مثبتة، ويصرحون بأنها مقدار وافر من الأدلة، وأن أي امرئ يشكك بكل هذه البراهين لا بد أنه مجنون.

يحدث كل ذلك لأن “القانون الدولي” غير موجود من الناحية العملية إلا بالحد الذي تقبل به حكومات العالم بالتظاهر بأنه موجود، وطالما أن الامبراطورية المركزية الأمريكية قادرة على السيطرة على الرواية السائدة عما تفعله روسيا، فستكون قادرة على مواصلة استخدام ذريعة “القانون الدولي” كهراوة تضرب بها أعداءها، وهذا كل ما نراه حقاً.