رأيصحيفة البعث

“بعث 2020”

بسام هاشم

سواء أترجمت كتلة البعث الجديدة في الدور التشريعي القادم لمجلس الشعب، حرفياً، خيارات الرفاق المشاركين في عملية الاستئناس، أم خضعت لتعديلات قيادة الحزب، فإن علينا أن نعترف أن نتائج الاستئناس (أو ما يمكن أن نطلق عليه انتخابات تمهيدية) كانت كاشفة تنظيمياً، على الأخص فيما يتعلق بعلاقة “بعث 2020” بقاعدته التاريخية، وبما يخص، أيضاً، نظرة “البعث الجديد” إلى نفسه وموقعه، ولاسيما الدور الذي يستعد للاضطلاع به في مرحلة ما بعد الحرب!

فاليوم، وبعد أكثر من ثماني سنوات على إلغاء المادة الثامنة، وتسع سنوات من الحرب التي عصفت بسورية وبالحزب، يثبت البعث أنه لايزال – في نظر الغالبية السورية – الوجهة الأولى للراغبين في العمل السياسي، والبوتقة العريضة التي تملك القابلية لاستيعاب وإدماج الجميع، وأنه التشكيل الحزبي الذي لايزال يملك من قوة الجاذبية بحيث أصبح ملاذاً مشتركاً لأبناء الشرائح الفقيرة والوسطى ولكبار رجال الأعمال والمتمولين الجدد الطامحين للعب دور سياسي في فترة ما بعد الحرب.

بعبارة أخرى، وبمعزل عن التحليلات الجامحة التي كادت تذهب – في لحظة انفعال – إلى أن البعث حزب شبه “بروليتاري” لطالما احتكر تمثيل الفقراء والكادحين، يعيد البعث “المكتشف” طرح سؤال الهوية الذي لطالما رفض الإجابة عنه: هل هو حزب طبقي، وهل هو حزب مطلبي؟ أم أنه “الطليعة” السياسية والإيديولوجية المؤتمنة، أولاً وأخيراً، على حمل راية القومية العربية، و”النخبة” الحاملة لـ “الهمّ” الاجتماعي حقاً، ولكنها المترفّعة والمنزّهة عن الترويج أو الخوض في أي “صراع” طبقي يمكن أن يبدد الطاقات بعيداً عن الصراع المحوري القومي والتحرري العربي!

فأن يستفيق بعثيون كثيرون على وجود أغنياء وفاحشي ثراء في صفوف الحزب، فذلك ما يمكن وصفه بأنه نوع من تفكير متأخر يحاول جرّ كوادر البعث عنوة إلى متاريس اجتماعية، تحت عناوين لم تكن في صلب أدبيات الحزب، وفي لحظة تاريخية كشفت “الوطنية السورية”، على امتداد سنوات الحرب، أنها خليط متمازج وعابر للشرائح الاجتماعية والطبقية والدينية والطائفية والعرقية، في مواجهة تحالف صهيوني أطلسي، ولكن أيضاً في مواجهة وهابية وعثمانية جديدة محمولتين على فوائض البترودولار والتمويلات الغربية. وإن أردنا التفصيل، فإن إسقاط مشاريع ممولي الحرب على سورية، السعودي والقطري والأردوغاني والحريري، وإفشال الحصار الاقتصادي اليوم، ما كان ممكناً، ولن يكون، إلا من خلال التحالف مع رأسمال وطني، خاض المعركة بصمت، طوال السنوات الماضية، إلى جانب الجيش والشعب، وتحدّى العقوبات، ولم يبادر إلى الهروب كما فعل كثيرون، وهذا الرأسمال هو الأقدر – تاريخياً – على صياغة هوية وطنية جامعة، وتطلع قومي، ينطلقان من دروس وخلاصات الحرب. إذ لا يمكن مواجهة الرأسمال السعودي والقطري والحريري، بسمته العائلية، إلا برساميل سورية عائلية، ولا يمكن إحباط التواطؤ الإخواني الأردوغاني الذي ينتهي إلى خدمة الشوفينية الطورانية إلا من خلال ارستقراطية وطنية محافظة، ولكنها تنويرية، وهي مندمجة في الرأسمال العالمي، ولكنها مستقلة، وهي قد لا تحبذ أفكار اليسار ولكن لها قناعاتها الحاسمة الوطنية والقومية.

وبشيء من الواقعية السياسية، علينا أن نعترف أن الاستئئناسات الحزبية الأخيرة رفعت الغطاء عن الكثير من التحوّلات التي عصفت بالبنية الاجتماعية للحزب، كما عصفت بالكثير من التعميمات المتوارثة، وفي المقدمة منها أن البعث هو حزب العمال والفلاحين، أو هكذا تهيأ للبعض منا على أقل تقدير! لقد ورث البعث أفكار القوميين العرب لبدايات القرن الماضي، وخاض معركة التحرر من الاستعمار الفرنسي في مراكز المدن الرئيسية، واستلهم روحاً صوفية ثورية من فلاسفة المثالية الأوروبية، وقد فرض نفسه أخيراً كحزب يعرف تماماً أن حيازة السلطة، واستمراريتها، أمر ضروري وجوهري لتطبيق “البرامج” السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في دول ومجتمعات قيد النشوء. وحتى عندما تخلى عن المادة الثامنة من الدستور، كان البعث يدرك أهمية الاحتفاظ بسلطة قوية تمكّنه من الحفاظ على وحدة المجتمع في مواجهة مشاريع التفتيت – الاستعمارية والمعادية للقومية العربية – وهو ما أكدته، بالضبط، وقائع “الربيع العربي” المزعوم.

ليس البعث حزباً طبقياً أو غير طبقي.. هو حزب الوطنية والقومية في مرحلة النهوض، ولربما شكّل ذلك فحوى ومضمون هويته المتحوّلة والانقلابية جيلاً بعد جيل. إنه يمثّل الوجدان العروبي في لحظة صعوده وتناميه، وعليه فهو يتوزّع على الجميع، لا فرق بين غني أو فقير، ويتجسّد في أكثر من شكل وأكثر من مضمون.. ولذلك قيل أن البعث مجتمع كامل، وهو كل هذا المجموع، ولذلك أيضاً كان انهيار البعث في العراق – على اختلاف التجربة بين البلدين الشقيقين – انهياراً للدولة والمجتمع في الوقت نفسه.

وليس دفاعاً عن الفساد، فقد أثبتت مجريات الحرب، وما قبل الحرب، أن الفساد عابر للشرائح والمكونات الاجتماعية، وأن الحثالات موجودون في كل اتجاه وصوب.. الأساس في الفساد أخلاقي فردي، وهو لا يصبح سياسياً – كما يبدو – إلا في مراحل التحلل والتفسخ المجتمعي، والحل في النهاية يتمثّل في بناء دولة القانون!

ليس مستبعداً أن يتحوّل البعث إلى حزب أعيان أو رجالات وطنيين كما حدث تاريخياً مع إنجاز الاستقلال أو في أعقاب الحرب.. حينها تتجمع التجربة الوطنية في بؤرة واحدة لتعيد حشد الطاقات على أسس أشد قوة ومنعة، وأكثر تركيزاً على ما هو جوهري. ولن يخسر البعث، حينها، من رياديته. بل، على العكس، قد يجدد الدور التاريخي الذي نذر نفسه له. وبعبارة أوضح، فإن ما يحتاجه البعث، اليوم، هو الانكباب على إعادة تعريف هويته الإيديولوجية في مرحلة تاريخية غارقة بالالتباس والغموض؛ ولن يكون ذلك على حساب مستقبل “قاعدته” الاجتماعية بأي شكل، فسورية ما بعد الخلاص من الإرهاب أحوج ما تكون إلى المعمارية الأخلاقية والنقاء الروحي التي عادة ما ميزت بدايات البعث، وبدايات الحركة التصحيحية عام 1970.

لقد عبر الاستئناس، كما أراده وتصوره الرفيق الأمين العام للحزب، عن استعداد البعث للارتماء في التحدي الديموقراطي، وما عليه إلا أن يثبت أن الحرب الهمجية لم تستطع أن تنال من قوة وعزيمة وتفاؤل البعثيين وإيمانهم بالمستقبل وتمسّكهم به، فهو لا يزال أول قوة سياسية في البلاد، وليس هناك حتى الآن من يستطيع منافسته.. وانقلابيته تعني – فيما تعنيه – الانتصار على الذات عندما يقتضي الموقف، وإبقاء الأبواب مشرعة للجميع.