أخبارصحيفة البعث

“التطبيع وصفقة القرن”.. محاولات تزييف الوعي العربي

فايز طربوش

نجحت الولايات المتحدة، ومن خلفها “إسرائيل” بالتعاون مع بعض الأنظمة الخليجية، وإلى حدّ كبير، في تزييف الوعي العربي، وخاصة في دول الخليج، وتعميق فكرة ألا فائدة من مقاومة الكيان الصهيوني، وألا بديل عن “العلاقات مع إسرائيل”، لتطوير المنطقة اقتصادياً واجتماعياً؛ ولذلك بدأنا نشهد في الأعوام الأخيرة موجة جديدة من “التطبيع”، بعد الموجة الأولى: اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 بين مصر و”إسرائيل”، وزيارة يوسي ساريد وزير البيئة الصهيوني في حكومة إسحاق رابين العاصمة البحرينية عام 1994، مروراً بمؤتمر مدريد عام 1991، وما تمخّض عنه من توقيع اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، واتفاقية وادي عربة عام 1994، وبعدها ما تسمّى “المبادرة العربية للسلام”، التي أطلقها عبدالله بن عبد العزيز عام 2002، والتي رأت أن وقف المقاطعة والاعتراف بـ “إسرائيل” والتطبيع الكامل معها – وكان هذا هو أول نص عربي رسمي عن التطبيع – مرهون بانسحاب الأخيرة من الأراضي العربية المحتلة عام 67، وقيام الدولة الفلسطينية على حدود 67، مع إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.

ولكن هذه الاتفاقات والمبادرات فشلت في كي الوعي العربي، وخاصة في دول محور المقاومة، كما تكفّلت الشعوب العربية، وخاصة في مصر، في تحويل “التطبيع” إلى مجرد حبر على ورق، رغم أن بعض الأنظمة العربية أقامت علناً مكاتب للعلاقات التجارية مع “إسرائيل”، وخاصة مشيخة قطر، بضغط من واشنطن، والأخيرة دعت لتنفيذ “المبادرة السعودية”، ولكن بدءاً من التطبيع، بحجة إغراء الكيان الصهيوني على تلبية المطالب العربية، ووجدت تلك الضغوط صدى لها في قمة الجزائر، عام ٢٠٠٥، والتي شهدت طرح النظام السعودي تعديل “المبادرة”، لكن وزير خارجية الجزائر، وبدعم من محور المقاومة، حسم النقاش، وأكد “أن جزائر الشهداء لن تكون محطة للتطبيع”.

غسل أدمغة ووأد ذاكرة

بعدها، شهد العالم العربي، ومنذ عام 2006، وتصدي المقاومة اللبنانية لعدوان تموز، ظهور جيوش إعلامية هدفها غسل أدمغة الناس، والترويج لمجموعة أفكار محدّدة: “إيران أخطر من إسرائيل”، و”حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية حركات إرهابية”، و”المقاومون مغامرون”، وغيرها من المقولات التي تقلب الأمور رأساً على عقب، وتمهّد لإقامة علاقات مباشرة مع الكيان الصهيوني، والانتقال من التطبيع السري، والمحصور في بعض المستويات الرسمية لأنظمة الخليج فقط، إلى التطبيع العلني، والمدعوم افتراضياً “شعبياً”، وترافق ذلك مع تسارع وتيرة الاتصالات الإسرائيلية مع بعض الأنظمة العربية، سواء على مستوى مسؤولين سابقين، ثم حاليين.

ومنذ بداية ما يسمّى “الربيع العربي”، ورغم فشل كل المبادرات السابقة في وأد الذاكرة العروبية والفلسطينية، ورفض الكيان الصهيوني تطبيق أي “اتفاق” إلا بما يناسب مصالحه، تسارعت وتيرة التطبيع، وشملت مجالات مختلفة سياسية واقتصادية وعسكرية ورياضية، وغدت صورة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزرائه وهو يتجوّلون في شوارع عواصم عربية أمراً اعتيادياً، وشكلاً من أشكال الدعم لجهود “السلام”، كما غدت لقاءات مسؤولي الأنظمة الخليجية والصهاينة، وفي مختلف الفعاليات، أمراً لا يثير حفيظة أحد، بل وبات يطرح ويتم تداوله عبر مختلف القنوات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي. وتزامنت تلك الخطوات مع الإعلان عن خطة “السلام” الأمريكية المعروفة بـ “صفقة القرن”، بحضور ثلاثة سفراء خليجيين، والتي تفترض أنه “إذا قام عدد أكبر من الدول الإسلامية والعربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل فسوف يساعد ذلك على دفع حلّ عادل ومنصف للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، وتضيف بأن الولايات المتحدة تأمل “أن تبدأ الدول العربية داخل المنطقة، والتي لم تحقق بعد السلام مع دولة إسرائيل، على الفور، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتفاوض معها في نهاية المطاف على اتفاقيات سلام”، وتؤكد ضرورة إنهاء “أي مقاطعة”، انطلاقاً من أن الولايات المتحدة تنظر إلى “حركة المقاطعة على أنها مدمّرة للسلام”، أي أن “الخطة” تنسف، وبجرّة قلم، أكثر من 70 عاماً من الصراع الوجودي.

شرعنة الاحتلال

ومنذ بداية العام الحالي، تكثّفت جهود أنظمة الخليج، السياسية والإعلامية، وبدعم أمريكي، لشرعنة الاحتلال ومحاولة تحويل الكيان الصهيوني إلى “دولة مركزية” و”صديقة” في المنطقة، وحرف البوصلة باتجاه عدو افتراضي، ألا وهو إيران، مستفيدة في ذلك من تراجع المشروع القومي العربي، وهيمنتها على المؤسسات الرسمية العربية، وعلى أغلب وسائل الإعلام المؤثّرة (الجزيرة – العربية)، حتى وصل الأمر لإعلان وزير خارجية النظام البحريني خالد بن أحمد آل خليفة إن “إسرائيل وجدت لتبقى ولها الحق في أن تعيش داخل حدود آمنة”. وتكلل التجييش والتزييف من خلال الدراما الرمضانية، وخاصة عبر مسلسل “أم هارون”، وهو عمل خليجي أنتجته مؤسسة “إم. بي. سي” السعودية، إذ حاول تسويغ ما قامت به الحركة الصهيونية من اغتصاب لأرض فلسطين. والأخطر تحرّك “الذباب الالكتروني” للدفاع عن المسلسل، والزعم بأن وجود الكيان الإسرائيلي “بات واقعاً مكرّساً لا بد منه، وبالتالي يجب التعايش معه”، وصب جام الغضب على الشعب الفلسطيني وشيطنته والتنصل من القضية التي تحوّلت، في نظرهم، إلى قضية ثانوية، ولذلك أطلقوا وسم “فلسطين ليست قضيتي”، انطلاقاً من مبادئ رسّخت عبر ثلاثة عقود: الأردن أولاً، ولبنان أولاً، والسعودية أولاً.. ليس من منطلق الخصوصية، ولكن من منطلق التفتيت، والذي طالما سعى له الكيان الصهيوني، ومن خلفه الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

الأخطر من كل ما سبق أن سلاح المقاطعة والمقاومة الاقتصادية – والذي اعتمد رسمياً نهاية العام 1945 بقرار من مجلس الجامعة العربية – وأثبت نجاعته في حرب تشرين 1973 ضد اقتصادات أمريكا وكل الدول والشركات التي تدعم العدوان، بدأ في السنوات الأخيرة يفقد بريقه، وسارعت أنظمة عربية لدفنه، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا يمكن حصرها: إغلاق المنامة في عام 2006 مكتب مقاطعة بضائع الاحتلال، وغزو البضائع الإسرائيلية الكثير من الأسواق العربية، والمشاريع والخطط لتطوير العلاقات بين تلك الأنظمة والكيان الصهيوني، ومشاركة وفد إسرائيلي في معرض “إكسبو2020” في دبي. وفي الطرف المقابل شهدت عشرات الدول الأوروبية والأمريكية والأفريقية حملات متنامية دعت إلى مقاطعة “إسرائيل” ومعاقبتها، وذلك في إطار حملة منظمة ومستمرة منذ سنوات ترمي إلى تحقيق مقاطعة شاملة للكيان الصهيوني.

فلسطين ستبقى البوصلة

ورغم كل ما سبق، ما زالت تتواجد في الدول الخليجية، تحديداً، أحزاب وحركات وشخصيات قوية وفاعلة تتصدّى، مستخدمة الحجج والبراهين المنطقية، لكل الرسائل المسمومة والمدفوعة الثمن سعودياً، وتفنّد ما تقدّمه الأنظمة الخليجية من مبررات للتطبيع، ومحاولة فصل العرب عن قضيتهم المركزية، والإدعاء بأنها تخص الفلسطينيين وحدهم. يضاف إلى ذلك أن قوى المقاومة الشعبية الحية والفاعلة في أمتنا، وعلى رأسها سورية، ستبقى فلسطين وتحرير أرضها ومقدساتها بوصلتها.