الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

خبـــز القــــــاق

د. نضال الصالح

للشاعر الجاهليّ أميّة بن أبي الصلت قصيدةٌ في ستة عشر بيتاً تحكي الصفة الأكثر لصوقاً بالغراب، أي الخيانة والخداع، وفي المتواتر الشعبيّ أنّه قيل للغراب: “لماذا تسرق الصابون؟”، فقال: “الأذى فيَّ طبْعٌ”. الخيانةُ، والخداعُ، والأذى، بعضٌ من صفات الغراب الذي حظيَ بغير مثل عند العرب، منها: “أخيلُ من غراب”، و”أحذرُ من غراب”، و”أغربُ من غراب”، وبغير كنية، منها: أبو المرقال، وأبو الشؤم.

منذ أطلق الغربُ المتوحش خرافة الربيع العربيّ تكشّفَ غيرُ قليل من المثقفين عن غير غراب، بل عمّا هو أكثر سواداً منه في الخيانة والخداع والأذى، فهُرع إلى تلك الخرافة، وورّمها تمجيداً وتصفيقاً وتهليلاً، ولحقَ بعرّابها “برنارد هنري ليفي” صاحب المقولة العجب فيما يُسمّى “جيش الدفاع الإسرائيلي”، حتى صحّ فيه، أي في ذلك المثقّف، قولُ الشاعر: ومَن كانَ الغرابُ له دليلاً، يمرّ به على جيَف الكلاب.

ولم تكد الخرافة تُسقط أقنعتها، بل لم يكد بعضٌ من أولئك يكتشف أنّ قطارها يمضي إلى وادٍ غير ذي زرع، وأنّ رهانه على “حتمية” انتصارها في كلّ مكان تشظّى بجحيمها لم ينته، ولن ينتهي، إلى غير قاصمة الظهر، أي ما كانت العربُ كنّتْ به عن الخيبة، حتى مضى، خطوة فخطوة، في استدارة إلى الجهة الأخرى، وحتى أنكرته الجهتان معاً، فلا صدّقتِ الأولى أنّه منها بحقّ، وما رأت الأخرى فيه سوى غراب ينعبُ بالهزيمة، وحتى صار “كالمنبتّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى”.

من براعة الوعي الشعبيّ في حلب أنّ الحلبيين يسمّون الفِطر الذي ينمو على الأشجار: “خبز القاق”، وهذا الأخير، القاق، هو اللفظ الشعبيّ للغراب الذي عادة ما يعتاش على ذلك الفطر، ولاسيّما أنّ مِن طبعه، على النقيض من الحيوانات الأخرى، أنه لا يتعاطى الصيد، بل إن أصاب جيفة نالَ منها، وإلا ماتَ جوعاً. أمّا حكايةُ الغراب الذي شاءَ أن يصير كالقطاة في مشيتها فأشهرُ من أنْ تُعرّف، وكان “الدميريّ” اختزلها في كتابه “حياة الحيوان الكبرى” بهذه الأبيات لشاعر لم يسمّه: “إنَّ الغرابَ وكانَ يمشي مَشيةً، فيما مضى من سالف الأجيالِ. حسَدَ القطاةَ ورَامَ يمشي مشيَها، فأصابه ضرْبٌ من العُقّالِ. فأضلَّ مشيتَه وأخطأ مشيَها، فلذاكَ سمّوه أبا المِرقالِ”.

وفي الواقع أنّ بعض المثقّفين يشبهون ذلك الغراب في حكاية الدميري، إذ لا شيء يثنيهم عن الانتقال من هذه الجهة إلى تلك، ثمّ ما إنْ تجهر الحقيقة بنفسها، بل ما إنْ ترجح الكفّة لصالح الآخر المختلف، حتى يكون حالُهم حالَ الغراب الذي قيل إنّه سُمّيَ كذلك لغُربته عن الناس والديار، شأنَ الذئب الذي يُوصف مع الغراب بالأصرميْن، كناية عن اختيارهما الخرائب مكاناً للإقامة، وحتى يكون حالهم أيضاً حال ذلك الرجل الذي ذمّه بديع الزمان الهمذانيّ في رسالة له، أي قوله:

ما أعرف لـ.. مثلاً إلا الغرابُ الأبقعْ، مذموماً على أي جنبٍ وقعْ.