دراساتصحيفة البعث

انقلب السحر على الساحر.. و الثورة الملونة في عقر داره !!

هيفاء علي

لا تعدو موجة الاضطرابات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية بالتحديد، تحت مسمى “الربيع العربي”، كونها وجهاً آخر للثورات الملونة الأنغلو – أمريكية، ودائماً للأهداف نفسها: زعزعة استقرار الدول السيادية التي ترفض الانصياع والتبعية للدول الغربية المتمسكة بثوبها الاستعماري وعقليتها المتغطرسة والمتعجرفة. الوقائع نفسها التي تابعناها في سورية والعراق وليبيا من إشاعة التخريب والتدمير، نراها اليوم في الساحات الأمريكية، حيث تعود الحيل والخطط التي تم استخدامها ضد ليبيا وسورية والعراق وأوكرانيا إلى الولايات المتحدة، لينقلب السحر على الساحر.

ويبدو اليوم أن هذه الثورات، مسبقة الصنع من قبل الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، وصلت إلى ديار صنّاعها عملياً بعدما خرجت المظاهرات الاحتجاجية إلى الشوارع في معظم الولايات الأمريكية على خلفية مقتل المواطن جورج فلويد. والأهم أنه لم يعد هناك شيء يسير على مايرام في الولايات المتحدة بعدما انفجرت الديمقراطية، وها هي المؤسسة الأمريكية تدمر دولتها تحت راية “الكفاح من أجل حقوق الإنسان”. وللتذكير فقط، فإن سياسة التمييز العنصري في الولايات المتحدة لم تغب يوماً، بل وقعت حوادث كثيرة مماثلة في عهد الإدارات السابقة.

لقد أنفقت الولايات المتحدة أموالاً طائلة على الحروب والثورات الملونة على مدى العقود الماضية. وكل دافع ضرائب أمريكي سمح للجيش الأمريكي بإسقاط قنابله على الكثير من الدول وشعوبها في العالم. ووفقاً لبحث أجراه معهد واطسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون، فمنذ هجمات 11 أيلول 2001، وإعلان الحرب على الإرهاب، أنفقت الولايات المتحدة 6400 مليار دولار لتمويل الحروب التي صاحبتها انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات المدنية، سواء في الولايات المتحدة أم خارجها، إضافةً إلى أن هذه الإدارة -التي تتبجح بالديمقراطية وتزعم حمايتها حقوق الإنسان- تقوم على الدوام بتصفية عملائها في حال خالفوا أوامرها، أو تزجهم في السجون دون أي محاكمة، وخير مثال على ذلك ادوارد سنودن، الذي كشف للعالم أن أجهزة المخابرات الأمريكية استغلت مواطنيها وجمعت بيانات عنهم دون إذن، كما كشف أسراراً خطيرة ومثيرة للقلق عن هؤلاء الليبراليين من خلال فضحه لحقائق راسخة حول الديمقراطية الأمريكية المزيفة. اضطر سنودن إلى الفرار من الولايات المتحدة، ولجأ إلى روسيا، فلدى الولايات المتحدة التي تزعم أنها ديمقراطية أكبر عدد من المعتقلين في العالم، وهناك أكثر من مليونين ومائتي ألف شخص في السجون الأمريكية.

تبرز هذه الحقائق أموراً عدة: أولها أن أمن المواطنين الأمريكيين غير مرض، وهم يريدون تنظيم وتدريب دورياتهم الخاصة، والثانية أنه مجتمع يهيمن عليه التوتر الشديد، إن لم يكن التعصب العنصري. والثالثة أن النظام القضائي الأمريكي لا يفي بتطلعات المواطنين، كما أوضح الحكم القضائي النهائي لهذه القضية، والذي برأ الشرطي القاتل من التهمة المنسوبة إليه، واعتبر جريمته دفاعاً عن النفس، إضافةً إلى العديد من الأمثلة الأخرى، والحقيقة الرابعة والأخيرة تؤكد على الاستخدام المفرط للقوة من قبل الشرطة الأمريكية. وعليه، فهذه الدولة التي نصبت نفسها شرطياً على تطبيق العدالة في جميع أنحاء العالم، وتزعم أنها ملزمة بحماية حقوق جميع البشر تسيء استخدام القوة ضد مواطنيها، وهي ليست قادرة حتى على “حماية حقوق الإنسان” على أراضيها.

أدى استياء المواطنين الأمريكيين إلى المزيد من العنف، حيث تحولت المظاهرات إلى حروب شوارع حقيقية في مدن معينة. وانضم أعضاء منظمة “أنتيفا” المتطرفة إلى حركات الاحتجاج، ما أدى إلى أعمال شغب وصراعات في بعض المدن. وإضافة إلى الصراع مع الشرطة، تم تدمير ونهب العديد من الأعمال التجارية، ما تسبب بأضرار جسيمة في الممتلكات، وبدأت الحرائق في بعض المدن. وقد زادت هذه الحوادث من تفاقم الركود الاقتصادي، حيث عانت أمريكا بالفعل من ضربة شديدة بسبب تدابير الحجر المعمول بها.

تريد منظمة “أنتيفا”، وحلفاؤها المتطرفون، المحاربون في سبيل العدالة الاجتماعية، “ثورة شاملة”، إصلاحاً شاملاً مماثلاً لما حدث في العام 1917، والذي يتضمن “تقويض كل شيء وإعادة البناء من تحت الأنقاض”؛ وتعتقد شخصيات مؤثرة في الحزب الديمقراطي ووسائل الإعلام و”أجهزة المخابرات” أنه يمكنهم استخدام هؤلاء الحمقى لطرد ترامب، أو على الأقل التسبب في فقدانه ناخبيه في تشرين الثاني المقبل.

تفيد آخر المعلومات أنه، وراء الكواليس، يحتدم صراع أكبر بين الهياكل الليبرالية الخاضعة لنظام الدولة العميقة الأمريكية، (السياسيون الليبراليون من كلا الحزبين)، وغالبية النخبة في هوليوود، ووسائل الإعلام والمصرفيين من جهة، والهياكل المحافظة الوطنية التي تشمل السياسيين المحافظين من كلا الحزبين، وقطاع الأمن العسكري، ورجال الأعمال، والمدافعين عن القيم العائلية، من جهة أخرى.

لا يمكن إفراغ “المستنقع” الأمريكي في فترة وجيزة، وكما يقول أنصار ترامب، وحتى ترامب نفسه: إن العمل بدأ الآن. ومع ذلك، فإن إعادة انتخاب ترامب سيكون بمثابة خطر كبير على النظام الليبرالي. وهذا هو السبب في أن ما يحدث في الولايات المتحدة هو مثال واضح على محاولة انقلاب ضد سياسيين غير مرغوب بهم، ولم يتم تضمينهم في “خطة” الهياكل الليبرالية.

من ناحية أخرى، فإن الاستخدام المفرط للقوة من قبل الهياكل الأمنية العسكرية ضد المتظاهرين هو بالضبط الحجة التي تستخدمها الولايات المتحدة للتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من البلدان. فهل يمكن لروسيا، على سبيل المثال، اتخاذ إجراءات دولية لحماية حقوق المتظاهرين في الولايات المتحدة؟ وماذا لو قامت كل من فنزويلا وسورية وإيران والصين والعديد من البلدان الأخرى التي قامت الولايات المتحدة بتصدير “الديمقراطية” إليها من خلال القنابل و”الفوضى الثورية”، بدعم هذه الاحتجاجات على غرار ما فعلته واشنطن في بلدانهم؟.

لقد تحولت الاحتجاجات ضد قمع الشرطة والعنصرية في الولايات المتحدة إلى أعمال نهب للسلع الاستهلاكية، ومواجهة رموز التاريخ والثقافة الأمريكية، وقد رأينا هذه الأعمال على مدى عشرة أعوام تحدث في العراق وسورية وليبيا، وكانت عيون العالم الغربي عمياء، وآذانه صماء، بل ودعم هذه الأعمال بكافة الوسائل، وقد شاهدنا كيف وصف ترامب المتظاهرين بأنهم إرهابيون، بينما وصف الإرهابيين في سورية بأنهم “طلاب حرية وديمقراطية، وأنهم معارضون معتدلون”!!.