دراساتصحيفة البعث

لبنان على مفترق طرق؟!

ترجمة: سمر سامي السمارة

عن موقع كيت هون 5/7/2020

تبدو الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان ماضية نحو المزيد من التعقيد، إذ يواصل انزلاقه نحو تضخم مفرط، وأزمة اقتصادية هي الأسوأ تهدد استقراره منذ الحرب الأهلية.

يرى البعض أن السبب الرئيسي يعود إلى انكماش مخطط “بونزي” الذي بموجبه عمل حاكم مصرف لبنان المركزي على إثراء رجال الأعمال والسياسيين اللبنانيين، ففي كانون الأول لعام 1997 تم تحديد سعر صرف الليرة اللبنانية بـ 1507.5 ليرة مقابل الدولار، لكن حاجة البلاد إلى دولارات لاستيراد الغذاء والوقود لمحطات توليد الكهرباء، بالإضافة إلى الكثير من السلع، مع عدم وجود صادرات تذكر، وعجز كبير في ميزانيته، جعلته يلجأ إلى طرق أخرى للحصول على الدولار.

جلبت السياحة من دول الخليج بعض العملات الأجنبية، كما أرسل عدد كبير من المغتربين حوالات مالية إلى الوطن، لكن أياً منها لم يكن كافياً لدفع ثمن ما يتم استيراده.

وعليه بدأ البنك المركزي في زيادة سعر الفائدة على الأموال المودعة بالدولار لاجتذاب المزيد منها، كما فتحت المصارف التجارية حسابات بالدولار لعملائها، وعرضت نسبة أعلى مما كانت عليه الفائدة في معظم دول العالم، ثم قامت بإقراض تلك الدولارات للمصرف المركزي بأسعار فائدة متزايدة الارتفاع.

سارعت الشركات المستوردة إلى المصرف المركزي واستبدلت العملة اللبنانية بالدولار لتتمكن من دفع ثمن البضائع المستوردة، وبذلك تراجع مخزون الاحتياطي من الدولار في خزانة البنك المركزي الذي اضطر لرفع أسعار الفائدة لاجتذاب المزيد من الشركات المستوردة، وفي العملية الاقتصادية الطبيعية يدفع المصرف المركزي الفوائد من المصارف التجارية، إلا أن ما حصل في لبنان كان عكس ذلك، ما أدى لزيادة ثراء مالكي البنوك  بشكل جنوني، وفي الوقت نفسه، لم يستطع الاقتصاد المحلي في قطاعي الصناعة والزراعة أن ينافس التدفق المستمر للسلع الرخيصة التي دخلت البلاد، وتأثر قطاع السياحة في لبنان بسبب الحرب على سورية، وهنا بدأ البعض بطرح أسئلة حول معدلات الفائدة المرتفعة.

في شهر آب عام 2019 انهار المخطط، وازدادت الضغوط المالية المستمرة التي تسببت فيها الديون السيادية المفرطة، والعجز التجاري المرتفع، وتدفقات الودائع الخارجة بشكل لا يحتمل، وعندما ظهرت الحقيقة مؤخراً تبيّن أنه لم يعد هناك المزيد من الدولارات في خزائن البنك المركزي، ولا يمكن تسديد القروض بالدولار من البنوك التجارية للبنك المركزي- على الأقل ليس بالدولار- كما أنه لم يعد من الممكن دفع حسابات الادخار المقومة بالدولار لدى البنوك إلا بالليرة اللبنانية، وببساطة منعت البنوك الناس من الوصول إلى حساباتهم المودعة بالدولار، والتي أصبحت قيمتها في الوقت الراهن 15٪ تقريباً من قيمتها الأصلية.

في عام 2018، كان لدى البنوك اللبنانية -التي حازت على الكثير من الثناء والإشادة – أصول اسمية تتجاوز 360 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبنان، ولكن اليوم لم يتبق منها شيء، هوت العملة اللبنانية التي تعاني من تضخم مفرط لتصل إلى 9.500 ليرة مقابل الدولار، وبدأت  تتضاعف أسعار السلع عما كانت عليه قبل 10 أيام، ما آل إلى تدهور الحياة المعيشية للمواطنين، ولكن على الرغم من الوضع المعيشي المعقد للغاية، يصر المصرفيون والسياسيون اللبنانيون على حالة الإنكار، وحالياً يجري لبنان محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن خطة إنقاذ بقيمة 10 مليارات دولار لإصلاح اقتصاده بعد أن فقدت عملته المحلية حوالي 80٪ من قيمتها في السوق السوداء، وصاغت الحكومة ما وصفته بخطة الإنقاذ التي قدرت الخسائر التي تكبدها البنك المركزي والمقرضون المحليون بنحو 241 تريليون ليرة، ما يعادل 69 مليار دولار، على أساس سعر صرف قدره 3500 ليرة  للدولار الواحد، مقارنة بالسعر الرسمي البالغ 1507.50.

لكن العملة وصلت إلى 9500 للدولار مؤخراً، وطرحت البنوك اقتراحاً لبيع أصول الدولة بقيمة 40 مليار دولار حتى تتمكن الحكومة من سداد ما تدين به، بينما يجادل البنك المركزي، المعروف باسم مصرف لبنان، بأن النهج المحاسبي المختلف يظهر فائضاً وليس خسارة، حاول المشرعون بعد ذلك دمج الأرقام في عدد أقل، ما أوقف أيضاً المحادثات مع صندوق النقد الدولي، وتفاقمت الفوضى عندما استقال مسؤولان اقتصاديان رئيسيان احتجاجاً على طريقة تعامل السياسيين مع الأزمة، التقى حاكم البنك المركزي رياض سلامة ووزير المالية غازي وزني، ورئيس الجمعية المصرفية مؤخراً، وناقشوا سبل الاتفاق على الأرقام، وذلك مؤشر على أن المسؤولين وأصحاب المصلحة الرئيسيين قرروا أخيراً التوصل إلى حل وسط، لكن ذلك لم يهدئ قلق المواطنين، وخرجت أصوات تطالب بإقالة رياض سلامة الذي يقود البنك المركزي منذ عام 1993، ومصادرة أموال مالكي البنوك الذين أداروا سوية مخطط “بونزي” الذي تسبب بإفقار الملايين، في الوقت الذي كانوا يرسلون فيه أموالهم إلى بنوك سويسرا.

مع هذه الفوضى الاقتصادية، لا توجد واردات قادمة، ولا تستطيع الحكومة توفير الكهرباء سوى لفترة 4 ساعات في اليوم، لكن أخطر ما في الأمر أن الولايات المتحدة تستخدم إسرائيل، ومملكة آل سعود، وحلفاءهم داخل لبنان لاستغلال الوضع الاقتصادي للضغط من أجل تشكيل حكومة جديدة، وإخراج حزب الله مع حلفائه من المعادلة اللبنانية لإفساح المجال أمام حلفاء السعودية والولايات المتحدة، ومما لا شك فيه أن هذه الأزمة الاقتصادية ستكون قاسية على الشعب اللبناني، لكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون فرصة للتخلص مرة واحدة من الهياكل الطائفية، وإصلاح الاقتصاد الذي يعتمد على الاستيراد الآن، من هنا ينتظر الشعب أحد الخيارين: إما انهيار النظام السياسي الحالي ليحل محله نظام معقول، أو سينفجر إلى حرب أهلية جديدة، ولكن حتى الآن يبدو أن القوى الخارجية تفضّل الخيار الأخير، في حين أن الشعب اللبناني سيكون أفضل حالاً بالذهاب إلى الخيار الأول.