دراساتصحيفة البعث

دور أمريكا العالمي يتغير بالفعل

عناية ناصر

 

عندما انهار الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات، كان بإمكان الولايات المتحدة أن تزعم أن معركتها الكبرى ضد الشمولية قد انتهت أخيراً، كما كان يمكن لأمريكا تقليص وجودها في جميع أنحاء العالم باستثناء المناطق الأكثر حيوية، وتقليل اعتمادها على إمدادات الطاقة المستوردة، وتجريد استراتيجيتها العالمية من السلاح، والتخلي عن السعي إلى التفوق، ولكنها لم تفعل، ففي ذلك الحين، أصبح الأمريكيون مدمنين على التفوق، مقتنعين بأن الشكل العسكري للقيادة العالمية أمر حيوي ومستدام، لكن ذلك لم يعد واضحاً اليوم، إذ بدأ الأمريكيون في إعادة النظر الجاد في دور دولتهم في العالم منذ أربعينيات القرن الماضي، إلا أن النتيجة النهائية غير مؤكدة، قد يبدو أن كوفيد 19 يقود إلى إعادة التقييم، لكن الوباء في الواقع ليس سوى جزء من عاصفة تقوض قابلية استمرار الاستراتيجية العالمية التي صاغتها أمريكا خلال وبعد الحرب الباردة.

كانت الضربة الأولى للاستراتيجية القديمة هي تكلفة رد الولايات المتحدة على أحداث الحادي عشر من أيلول، حيث أجبرت الهجمات الولايات المتحدة على بناء نظام واسع النطاق ومكلف للأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، تلك حقيقة، إذ لم يكن لدى القادة الأمريكيين خيار، لكنهم اختاروا أيضاً إشراك الجيش التقليدي في الصراع مع الحركات الإرهابية العابرة للدول، زاعمين أن إنشاء واستدامة حكومات صديقة في الوطن العربي أمر ضروري لمنع الإرهابيين من مهاجمة الولايات المتحدة، وقد أصبح العراق وأفغانستان مختبرين لتجريب هذه الفكرة، وتحويل التنافس العالمي الذي يجب ألا يكون حرباً إلى حرب، ولكن كانت الحرب هي النهاية لهذا الخيار.

الآن، وبعد سنوات من الجهود أنفقت فيها تريليونات الدولارات، وقتل فيها الآلاف من الأمريكيين، فإن الخيار الذي يزعم بأنه يجب على الولايات المتحدة إما محاربة المتطرفين “هناك”، أو مواجهتهم في الداخل لم يعد مؤكداً كما كان يُظن في السابق، لم يعد معظم الأمريكيين يعتقدون أن نتائج حربي العراق وأفغانستان جعلتهم أكثر أماناً، ومما زاد الطين بلة أن الولايات المتحدة لم تدفع ثمن “حربها على الإرهاب” باهظة الثمن عن طريق خفض التكاليف، وزيادة الضرائب في الداخل، أو تخفيف المسؤوليات الأمنية في مكان آخر، بدلاً من ذلك، اعتمدت الولايات المتحدة على الإنفاق بالعجز، ربما كان هذا القرار منطقياً في ذلك الوقت، نظراً لقوة الاقتصاد الأمريكي، ولكن الآن توجب دفع الفاتورة.
القاعدة الأولى للاستراتيجية هي أن المكاسب المتوقعة لأي إجراء أو نهج يجب أن تتجاوز التكاليف، لقد أجبرت الحروب الطاحنة في العراق وأفغانستان الجمهور الأمريكي على التساؤل عما إذا كانت استراتيجية الأمن القومي لدولتهم تتبع هذه القاعدة، كانت النتيجة تزايد خيبة الأمل لدى الرأي العام لكل من أحزاب اليسار واليمين السياسي مما يُسمى غالباً “أبدية حروب الولايات المتحدة”، لجعل القوة العسكرية علاجاً لكل شيء، وهو أمر استغله دونالد ترامب خلال معركته الرئاسية لعام 2016.

الضربة الرئيسية الثانية لاستراتيجية أمريكا التقليدية العالمية هي خيبة الأمل المتزايدة بحلفائها وشركائها، من الناتو إلى الممالك الغنية بالنفط في الخليج، فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، اختارت الولايات المتحدة أن تظل منخرطة بشدة في ثلاث مناطق مهمة: أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط، وقد فعلت ذلك من خلال التحالفات والشراكات الأمنية والانتشار العسكري المتقدم، وفي مقابل الحماية العسكرية الأمريكية، قبلت دول أخرى القيادة الأمريكية، ولكن في الآونة الأخيرة لم يعد هذا صفقة جيدة للأمريكيين أو لأصدقاء وحلفاء أمريكا، فترامب اعتبر وضخّم فكرة أن العديد من التحالفات الأمريكية كانت غير عادلة، وأن الشركاء بحاجة إلى بذل المزيد من أجل الدفاع عن أنفسهم، في حين أن تأطير التحالفات بشروط التعاملات قد يكون جذاباً سياسياً لقاعدته، إلا أن ترامب عقد العلاقات مع دول أخرى، اليوم، فجميع الشراكات الأمنية الأمريكية، بخلاف تلك التي مع إسرائيل، تبدو أضعف مما كانت عليه قبل رئاسة ترامب، قد يكون هذا أمراً لا رجعة فيه، ويقوض أحد أعمدة استراتيجية الولايات المتحدة القديمة.

الضربة الثالثة كانت تكيف أعداء أمريكا الذين وجدوا طرقاً جديدة لإحباط الجيش الأمريكي القوي والمتقدم تكنولوجياً، ففي كتاب جديد مهم يشرح الاستراتيجي ديفيد كيلكولين كيف تعلم من يطلق عليهم “التنانين”، الخصوم الذين يتمتعون بقدرات مثل روسيا والصين، و”الثعابين”، الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل القاعدة و”داعش”، محاربة الغرب، “معطلين بشكل متزايد التفوق الاستعلائي للهيمنة الأمريكية في ساحة المعركة بعد الحرب الباردة”، ولا يرى كيلكولين طريقة سهلة لاستعادة تلك الميزة، نظراً “للمعيقات السياسية والمالية والاجتماعية الجادة لأي مسار عمل قد نختاره”.

الضربة الرابعة وربما الأكثر ضرراً لاستراتيجية أمريكا العالمية بعد الحرب الباردة هي جائحة كوفيد 19، وخاصة تكلفتها الهائلة، يقدر مكتب الميزانية في الكونغرس أن عجز الميزانية الفيدرالية للسنة المالية 2020 سيكون 3.7 تريليون دولار، مع توقع أن يكون الدين الفيدرالي 101 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه ليست سوى البداية، فبمجرد أن تمر الولايات المتحدة بالركود الاقتصادي أو الكساد الاقتصادي الذي سيسببه الوباء، يجب تبني مرونة وطنية ونظام قوي للصحة العامة حتى لا يحدث شيء من هذا القبيل مرة أخرى، سيكون هذا الأمر مكلفاً للغاية، وقد يزيد من الحجة القائلة بأن أمريكا لم تعد قادرة على تحمّل السعي وراء الأسبقية من خلال الإنفاق العسكري الضخم.
تقوّض هذه الضربات الأربع الدعم الشعبي للقيادة العالمية التي مارستها الولايات المتحدة خلال ذروة الحرب الباردة وما بعدها، الفرصة السانحة الآن كي يرى الأمريكيون من اليسار واليمين القيادة العالمية على أنها رفاهية وليست ضرورة، قد تكون نهاية عصر تقترب، وعلى الرغم من أن وتيرتها ومداها لايزالان غير محددين، ستؤثر الانتخابات في تشرين الثاني القادم والتكلفة النهائية لوباء الفيروس التاجي على ما إذا كانت مراجعة الدور العالمي لأمريكا ستتم بسرعة أم ببطء، وفي كلتا الحالتين، هناك تغير كبير في الطريق.