الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شجرة الصندل!

حسن حميد

دائماً، كنتُ مع صداقة الفنون، فيما بينها، لأن كل فن من هذه الفنون يشكل مرآة جمالية للفن الآخر، ولم تصبح هذه المرآة الجمالية مرآة إلا بعد مخاض فني وتعبيري وأسئلة وتشوفات كثيرة جداً، أضافتها العقول والأزمنة والتعالق الروحي مع الخيال. وأقصد بالفنون، كل الفنون، وكنتُ، وسأظلُّ مع صداقة أهل الفنون، الرسام مع السينمائي، والمسرحي مع الروائي، والعازف مع القاص، ومرقص العرائس مع الشاعر.. الخ، لأن هذه الصداقة مرآة لا تُري صورة الفن من جوانب مختلفة فحسب، وإنما هي مرآة توسع المخيلة الإنسانية؛ والمخيلة الإنسانية هي دارة الابتكار والاختراع والإبداع.

أبديت هذا السطر استهلالاً لأقول إن حواراً وتعليقات أراها هنا وهنا، غاياتها الحطّ من شأن ذلك الفن أو ذلك الفنان، ولم أجد منفعة من وراء ذلك سوى الموافقة على تحطيب كل شيء، ودك كل الأسوار القائمة، وتخريب الأسيجة التي تحيط بالحدائق حتى لو كانت أسيجة من ورد أو أنفاس طيبة. فقد تابعت كتابات نقدية مهمة جداً، وهي من الرّف العالي في كتابة النقد الفني، تدور حول تجارب بعض الرسامين المشاهير في سورية يكتبها الفنان التشكيلي المعروف بهمته ورؤاه سعد القاسم، فقد كتب نقداً فنياً يليق بالفنان فاتح المدرس ولوحاته، وهو كما أعيَّ إضافة جديرة بالانتباه إلى كل ما كُتب عن تجربة الفنان فاتح المدرس، واستبطان أسرارها وجمالياتها. وقد رأيت أحد المتابعين يعلق بالقول: كفى مديحاً لـ فاتح المدرس، هناك فنانون أهم منه، وهناك لوحات أهم من لوحاته، فلماذا الكتابة المادحة له وحده، والحق أن سعد القاسم لم يكتب فقط عن فاتح المدرس الفنان الكبير الذي سيظل أهل الفن وعشاقه يتوافدون على قراه الجمالية جيلاً بعد جيل، وإنما كتب ويكتب عن فنانين آخرين. لهذا.. أود أن أقول لأخي سعد القاسم، وللأخ الذي عارضه، هذه الخبرية الصغيرة، فقد روى لي أحد الأصدقاء أنه عرف رجلاً مهموماً إلى حدّ الافتتان باللوحات الفنية عاش في أوروبا، وقد اشترى، لأن حاله المادية فوق الريح، لوحات عالمية كثيرة، وهي منتقاة، فجعلت من بيته متحفاً فنياً، ولأنه كان صاحب خوف على هذه اللوحات فقد أراد أن يصونها بنوع من أنواع التأمين الذي تعرفه البلاد الأوروبية، فسأل مؤسسة معنية بهذا الأمر فأرسلوا إليه خبيراً فنياً من أجل تقييم أهمية هذه اللوحات، وكانت لفنانين عالميين مشهورين جداً، منهم بيكاسو، تمثيلاً، وحين رأى الخبير اللوحات ذهل، وقال لصاحب البيت: معك حق، هذه اللوحات مهمّة جداً، ولك أن تخاف عليها، فتقيم عليها حراسة من نوع ما تجاه الحرائق، والزلازل، والسرقة، أو ما يصيبها من أذيات لها علاقة بطبيعة الأحوال الجوية. مشى الاثنان (صاحب اللوحات معاً، والخبير الفني) من لوحة إلى لوحة، وكان صاحب البيت يقول للخبير هذه هي اللوحات التي أريد أن أجعلها ضمن التأمين والحراسة، أي أنه كان يقفز عن بعض اللوحات، وبعد أن انتهى الاثنان من عملهما، وجلسا إلى الطاولة، ليشربا القهوة، واللوحات تحيط بهما، سأل الخبير صاحب اللوحات: لماذا لم تجعل هذه اللوحة، وتلك، وتلك، ضمن ما تريد التأمين عليه، وإقامة الحراسة، فقال لأنها لفنان من بلدي سورية، ولا أظن أنها ذات أهمية توازي أهمية اللوحات الأخرى لـ بيكاسو وسيلفادور دالي.. فقال الخبير: أنا لا أوافقك الرأي، لأن هذه اللوحات الثلاث ذات أهمية موازية لأهمية اللوحات التي طلبت حراستها والتأمين عليها، إن لم تعلوها قيمة. فدهش صاحب البيت، وراح يستمع من الخبير لأهمية اللوحات الثلاث، وما فيها من جمال، وحذق، وبراعة، لذلك ضمّها إلى عالم الحراسة والتأمين، وهو يقول له، أنا لم أكن أظن أنها بهذه الأهمية من حيث المعنى وما تقوله، ولا من حيث المبنى وطريقة توزيع الكتل الفنية والمؤاخاة بين الألوان، واستلال بعضها من بعضها الآخر، بل لم أكن أعرف أنها بهذا الغنى الجمالي والقيمي!

ولم تكن تلك اللوحات الثلاث التي أشار إليها الخبير الفني سوى لوحات فاتح المدرس! ولهذا أقول: إن شجرة الصندل حين تُطعن، تفوح من جراحها رائحة زكية عطرة جداً، ونادرة جداً.

Hasanhamid55@yahoo.com