دراساتصحيفة البعث

نظام عالمي جديد بعد فيروس كورونا ….

عناية ناصر

 

كيف ستنظر الدول إلى نفسها وإلى بعضها الآخر بعد الوباء؟.. هي ليست مجرد مسألة نرجسية، بل إنها أساسية للسياسة الدولية، فهي كما “القوة الناعمة”، كما يرى جوزيف ناي، أمر حاسم لنفوذ الدول على المسرح العالمي، إذ إنها تسمح لها بالإقناع بدلاً من الإكراه لتحقيق أهدافها.

في عصر المعلومات اليوم ليس من يفوز جيشه، بل من تفوز روايته، وفي هذا الارتكاز قد تدعي الدول أنها تعاملت بشكل فعال مع الفيروسات التاجية محلياً أو دولياً، ولكن عندما ينتهي كل ذلك سيكون هناك منتصرون وخاسرون، وسيكون تقييم ما بعد الفيروس التاجي منافسة دعائية دولية تذكّر بالحرب الباردة، لأن المخاطر كبيرة، ويمكن أن تؤدي إلى إعادة ترتيب تصنيفات قوة الدول، وحتى التسريع لعالم ما بعد أمريكا.

في بداية تفشي الفيروس التاجي، ألقى دونالد ترامب باللوم على الصين في التسبب بتفشي الوباء، وأشار إلى جدول التصنيف الدولي الذي أعده المنتدى الاقتصادي العالمي للادعاء بأن الولايات المتحدة هي أفضل دولة استعدت أكثر من أية دولة لمواجهة الوباء، لقد وضع جدول التصنيف الدولي الولايات المتحدة في القمة، تليها بريطانيا في المرتبة الثانية، ودولتان غير غربيتين فقط في المراكز العشرة الأولى: تايلاند وكوريا الجنوبية، بينما احتلت الصين المرتبة 51، هل هذا منصف؟ عندما ينتهي هذا الوباء ستتأثر قدرة الولايات المتحدة ومصداقيتها على إدارة الأزمة، وستعاني بريطانيا وفرنسا أيضاً بعدما تبيّن قصور التصور الدولي طويل الأمد لتفوق الخدمات الصحية الغربية، وكفاءة الحكومة الديمقراطية.

كان الفيروس التاجي اختباراً لانهيار مكونات ترسانة القوة الناعمة للغرب، لكن التقييمات اللاحقة لن تكون حول أنظمة الرعاية الصحية فقط، بل حول القوة الديمقراطية لدول الغرب أيضاً، لقد مثّلت هذه القوة رافعة هامة للقوة الناعمة ترفع بها الدول الغربية الشعارات الأخلاقية لإقناع الآخرين “الأقل ديمقراطية” من أنفسهم بصوابية مسار معين بشكل فردي أو جماعي من خلال الأمم المتحدة، ولكن بعد الفيروس التاجي، هل ستكون الدول الغربية قادرة على استخدام هذا السلاح الأخلاقي الديمقراطي بشكل مقنع؟ قد لا تجد بريطانيا وفرنسا، الموجودتان حتى الآن على المسرح الدولي، إجابة عن هذا السؤال، هل سيكون مقنعاً للمملكة المتحدة الآن أن تقدم المواعظ في المستقبل للأنظمة التي تتهمها بالاستبدادية بعد أن أثبتت المملكة المتحدة افتقارها إلى ثقة شعبها في أزمة كوفيد 19؟.

فرنسا هي الأخرى ستجد صورتها الدولية كدولة ديمقراطية ليبرالية ملطخة بعد أن فرض الرئيس ماكرون أحد أقدم أنظمة الإغلاق وأكثرها قسوة، إذاً كيف سيبقى القادة الفرنسيون ذوي مصداقية حين يقدمون المواعظ  لأمثال فيكتور أوربان في المجر (كما فعلت)، أو اتخاذ موقف أخلاقي مصطنع في المنظمات الدولية للتنديد بالمراقبة الرقمية للمواطنين من قبل الدول “غير الديمقراطية”؟.

كان الفيروس التاجي سبباً لتحطم مكونات ترسانة القوة الناعمة للغرب، ومن المرجح أن تتراجع بريطانيا وفرنسا عن المرتبة الأولى والثانية في الجداول الدولية السنوية للدول الـ  ٣٠ الأكثر تأثيراً بقوتها، كما ستتراجع قوة سياساتهما الخارجية تدريجياً، وعلى الأخص فيما يتعلق بالتدخل الليبرالي حول العالم، قد تسرع الانعزالية الأمريكية، وقد يتم تسريع تراجع النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد الذي طالما روّج له الغرب، وقد تستثمر روسيا والصين بالفعل نقاط الضعف هذه.

سوف تظهر بعض الدول داخل أوروبا، مثل ألمانيا والسويد وهولندا، فهي تحظى بمصداقية أكبر من حيث أنظمة الرعاية الصحية والقيم الديمقراطية العملية، ما يعزز قوتها الناعمة (المرتبة الثالثة والرابعة والعاشرة حالياً)، هل سيرى بعض النقاد علاقة بين شدة عمليات الإغلاق والقوة الديمقراطية؟ كيف ستلعب هذه  “الدول الشمالية” دوراً إيجابياً في السياسات المشحونة للاتحاد الأوروبي مع “الدول الجنوبية” (التي تشمل فرنسا الآن)؟.

لقد تضاءل دور الاتحاد الأوروبي- الذي يعتمد على القوة الناعمة فقط- على الصعيد الدولي بسبب نزاعاته الداخلية، وقلة رد الفعل، وضعف التنسيق والغياب الدولي بشكل عام، وخير مثال على ذلك استقالة رئيس مجلس البحوث الأوروبي بسبب الكسل البيروقراطي للاتحاد الأوروبي، وعدم وجود مبادرة في البحث عن حلول رئيسية للوباء.

بدورها أبدت الولايات المتحدة الأمريكية صورة متدهورة للقوة العظمى الأكثر ثراء والأكثر تطوراً، وهذا يمكن أن يسرع قدوم عالم ما بعد أمريكا تماماً، كما شهدت بداية القرن العشرين عالم ما بعد بريطانيا أو القرن التاسع عشر عالم ما بعد فرنسا.

هذا هو الوضع الحالي للأمور، ولم نبدأ حتى في رؤية مدى نجاح الدول في مواجهة الوباء، فالنجاح، أو الافتقار إليه، ستكون له عواقب أكبر على القوة المستقبلية للدول، ليس من حيث القوة الناعمة فحسب، ولكن من حيث القوة الصلبة لاقتصاد الدولة أيضاً، سيكون هذا هو الاختبار الحقيقي الذي سيعيد ترتيب القوى العظمى في العالم، والشيء المخيف هو أن التاريخ يشير إلى أنه عندما تحدث إعادة ترتيب للقوة العظمى، فإن الحروب تتبعها.