دراساتصحيفة البعث

التغلغل التركي في إثيوبيا.. أي دور مشبوه ؟

د. معن منيف سليمان

يعمل النظام التركي في ظل حكم العدالة والتنمية على التغلغل في إثيوبيا عن طريق التقارب والتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري، بهدف اختراق المجتمع الإثيوبي، عبر المساعدات الإنسانية، للتحكم في القرار الإثيوبي، وفرض أجندات تركية، لتحقيق أهداف استراتيجية وأطماع توسعية عدّة، تستهدف ليس فقط السيطرة على القرار الإثيوبي، بل أيضاً مواصلة سياستها في استهداف ومحاولة تطويق الأمن القومي العربي من خاصرته الجنوبية، والعبث في منطقة حوض النيل للسيطرة على المياه الإقليمية، وفرض نفوذها في منطقة الشرق والقرن الإفريقي، ما يمكنها من التحكم في خطوط الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن.

المتتبع للسياسة التركية يلمس حرصها الشديد في السنوات العشر الأخيرة على التقارب مع دول الرباعي: إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، وارتكز رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في تحرّكاته نحوها على أسانيد كاذبة، حيث يدّعي أن الأتراك أحق بحكم التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدينية والثقافية بعلاقات أمتن مع إفريقيا من قوى دولية صاعدة وفاعلة في القارة مثل الهند والصين وإيران.

أخذت السياسة الخارجية التركية في الاهتمام بإفريقيا منذ عام ٢٠٠٩، ويعدّ أحد الشواهد على ذلك وصول عدد السفارات التركية في إفريقيا إلى ٤١ سفارة، بالإضافة إلى محاولات إنشاء القواعد العسكرية على الساحل الإفريقي حتى يصبح لها مخلب قط في المنطقة لتنفيذ مخططاتها.

تمثّلت محاولات التغلغل التركي بإثيوبيا في رفع مستوى العلاقات إلى أعلى درجاته، فزار أردوغان أديس أبابا عام 2015، وهناك تحدّث عن العلاقات بين البلدين وكيفية دفعها إلى الأمام، وقد استغل أردوغان رغبة إثيوبيا التي تعدّ أكبر دول القرن الإفريقي وأهمها، في الانفتاح على العالم الخارجي، بعدما مرّت خلال الحقبة الأخيرة بمراحل انغلاق نتيجة الأزمات الاقتصادية، والنزاعات العرقية، فقدّم بلاده بوصفها الداعم الأول لأديس أبابا، ورفع مستوى العلاقات سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، مستغلاً رغبة أديس أبابا في استعادة دورها كلاعب إفريقي.

استخدم رئيس النظام التركي أردوغان، قواه الناعمة وسلاح المساعدات الإنسانية لاختراق إثيوبيا. فتمكن عبر منظمة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” من التدخل في الشؤون الإثيوبية التي افتتحت مكتبها في أديس أبابا عام ٢٠٠٥، وركّزت أنشطتها على الترويج للتعليم التركي كونه أكثر أدوات الاختراق الثقافي فاعلية من خلال المنح والبعثات التعليمية إلى الجامعات التركية، وتعمل “تيكا” على تقديم المساعدات الطبية للمستشفيات في إثيوبيا، ولاسيما مستشفيات الأطفال لخلق جيل يدين بالولاء لتركيا.

وحرص أردوغان على تطوير العديد من المناطق الإثيوبية المرتبطة بالتاريخ الإسلامي مثل منطقة “نجاش”، وإعادة ترميم مسجد النجاشي التاريخي في إقليم تجراي شمالي إثيوبيا، ومشروع ترميم القنصلية العثمانية في مدينة هرر شرقاً.

إن تركيا تسعى للسيطرة على إثيوبيا أملاً منها في أن تتحكم بمنابع النيل الأزرق، الذي يشكل ما بين 80 ـ 85 بالمئة من إجمالي مياه نهر النيل، ما يجعل جميع دول حوض النيل البالغة 11 دولة، مرهونة بموقف أديس أبابا من بناء السدود المائية، وهو ما ظهر جلياً في أزمة سد النهضة.

المؤكد في هذا الأمر، أن تركيا تحاول استنساخ ما سمي باتفاقية الرمح الثلاثي، التي وقعتها “إسرائيل” مع إثيوبيا في عام 1956، وكان الهدف منها أيضاً، هو السيطرة على المياه الإقليمية، وفرض نفوذ في منطقة الشرق والقرن الإفريقي من جهة، وإفساد أي توجه مصري لإفريقيا من جهة أخرى، وهو نفس ما تحاول أن تفعله تركيا.

ومن جهة أخرى، فإن استهداف تركيا لإثيوبيا، يتعلّق بالسيطرة التركية على الصومال، التي ظلّت لعقود بمثابة الحديقة الخلفية لإثيوبيا وبوابتها إلى الأسواق الدولية لكونها دولة غير ساحلية (قارية)، خاصة بعد إنشاء القاعدة العسكرية التركية في الصومال عام 2017، ودخول تركيا في “حرب الموانئ” في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، كما أن التشابك القبلي والصراع السياسي والحدودي والعرقي بين إثيوبيا والصومال يدفع نظام الرئيس التركي أردوغان إلى استغلال هذه التناقضات لتعزيز نفوذه في تلك المنطقة الاستراتيجية، بالاعتماد على عدّة أدوات، أبرزها دعم القومية الصومالية في إثيوبيا، أو إقليم الصومال الإثيوبي أو إقليم “أوغادين” ذي الأغلبية الصومالية، الذي احتلته إثيوبيا ثم أعلنت سيادتها عليه فور استقلال الصومال عام 1960، قبل أن تجتاح الحدود وتسيطر على مناطق أخرى خلال الحرب في الصومال بين عامي 2006 ـ 2009.

واستمراراً للدور التركي المشبوه في المنطقة، أثار إعلان المخابرات الإثيوبية عن إحباط العملية “الأخطر والأكبر من نوعها” لتهريب شحنات من الأسلحة التركية إلى البلاد، تساؤلات عدد من المراقبين حول أسباب استهداف الأسلحة التركية لإثيوبيا، تحديداً في ضوء ضبط عدّة عمليات تهريب سابقة، دفعت أديس أبابا إلى مطالبة تركيا بوقف عمليات تهريب الأسلحة إليها، لتمتد التساؤلات إلى طبيعة دور أنقرة في تأجيج الصراعات وزعزعة أمن بلدان القارة الإفريقية، خاصة في منطقة القرن الإفريقي التي تعيش حالياً خطوات مصالحة تاريخية بين بلدانها المتصارعة، وفي الوقت نفسه تشهد القارة ما يمكن وصفه “تمدداً” تركياً، سياسياً وعسكرياً، خاصة بعد إنشاء القاعدة العسكرية التركية في الصومال، الذي ظلّ منذ عقود غريماً تقليدياً لإثيوبيا الجارة.

ولا يخفى على أحد الدور المخابراتي الذي تشغله وكالة الأناضول، حيث تعدّ كلمة السر في التحركات التركية في العاصمة الإثيوبية، عندما جرى تأسيس مكتبها لتغطية شرق إفريقيا في أديس أبابا عام ٢٠١٤، وتشير التسريبات إلى أن الاستخبارات التركية تتخذ من مقرّ وكالة الأناضول مكتباً لعقد لقاءاتها ونشاطاتها، حيث تمّ رصد زيارات متكرّرة لمسؤولين أتراك إلى مقرّ الوكالة، من بينهم الدبلوماسي التركي أحمد يلدز.

إن إثيوبيا دولة محورية في القرن الإفريقي، فهي الأكبر حجماً في الجغرافيا والموارد والقوة العسكرية والاقتصادية لدول المنطقة لذا يسعى المشروع التركي لتحويل إثيوبيا إلى الشريك العسكري والسياسي في المنطقة في سبيل التحكم في خطوط الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن، وتصفية حسابات أنقرة مع مصر، وإن كانت هذه الشراكة غير متكافئة، حيث تميل موازين القوى لصالح تركيا.