الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نوافذ 61

عبد الكريم النّاعم

قرأتُ جملة لأمير المؤمنين عليّ (ع) يقول فيها: “تطيَّبوا بالاستغفار قبلَ أنْ تفضحكم روائح الذنوب”، وتوقّفتُ عندها، وكلّ ما يقوله هذا الإمام الفذّ يستدعي التوقّف، وتخيّلتُ على أثر ذلك لو أنّ روائح الذنوب انتشرتْ فوق ظهر هذه الكرة الأرضيّة: الذنوب الفرديّة التي يرتكبها الأفراد ضدّ بعضهم، والذنوب التي تقترفها الحكومات المتغطرسة بقوّتها، تُرى هل تكفي كلّ عطور أزاهير البراري، وما ابتكره الإنسان من عطور، لجعْل هذا الكوكب صالحاً للتجوّل في أنحائه؟! تُرى لو أنّ رائحة الذّنوب اندلعت، وبالتأكيد لن تكون إلاّ رائحة منتنة، هل كان الهواء الذي نستنشقه صالحاً لاستمرار الشهيق والزّفير، أنا أعتقد أنّ الله لم يجعل للذنوب رائحة تُشمّ لطفا بالعباد، لاسيّما البلدان التي ينتشر فيها الفساد، وتسمع فيها الكثير عن جعجعة الصلاح والإصلاح.

***

التقى بها بعد غياب طويل، دعاها لأحد المطاعم التي يستطيع ارتيادها. لم يكن المكان مهمّاً، كان لقاؤهما هو الأهمّ، صمت طويلا، وانفتحتْ كوّة للكلام عن الذكريات، وعن الأزمنة الماضية، وعن البُعد والغياب، ثمّة شيء مملَّح الطعم في فم واحد منهما، الماضي لا يُسترجَع، والذي مضى قد يكون فيه الكثير من تصوّر الذكريات، أو تصييرها جميلة، هكذا نحن نصنع الكثير، ونُبهّره، ونرشّ عليه الكثير من الرّغبات لنصنع شيئاً أجمل ممّا عشناه بالفعل. لحظات الانفعال قد تقودنا للغشّ، بدوافع مُبهَمَة، وحين نبتعد عن اللوحة تبدو التفاصيل أكثر وضوحاً، جميل وبديع أنْ نُغادر العديد من المحطّات ليكون المشهَد أكثر صدقيّة في نظرنا إليه، أخذ جُرعة إلى أقصى ما انبجس فيه في تلك اللحظة. قالتْ: “مازلتُ أريدك”، قال: “أنْ نريد، في ذلك شيء من الاشتهاء، والحبّ ليس كلّه اشتهاء، ثمّة سويعات من الأنس تمرّ بالإنسان، يجد فيها نفسه وقد حلّق بأجنحة غير منظورة، إلى عوالم لا يعرفها إلاّ الحنين إلى ما لسنا ندري، صحيح أنّنا لا ندري، ولكنّنا نكون في ذروة من ذرى السعادة..”، قاطعتْه: “يبدو لي أنّ تَراكُم المحطّات، واتصال الدروب التي سرتَ عليها قد أتلفت الكثير من تلك الزروع”، ونظرا إلى الزّرقة فوجداها كما كانت من قبل!!

***

في بيت متواضع، مبنيّ من “اللّبْن”، مازال قائما كشاهد ذكرى، رفض صاحبه أنْ يستبدله بأيّ بناء آخر، في هذا البيت المفروش سجادّة قديمة، وقد صُفّت المساند حول الجدران فبدا البيت أوسع ممّا هو عليه، والحيطان عارية، وليس ثمّة “كرْكَبة” من زوائد “البهْورة” التي توضع لتوحي بالامتلاك، عاد إليه ذلك الأُنس الذي لا يجده إلاّ في مثل هذه الأماكن، ترى أهي البساطة الخالصة من التعقيد؟! أم هي العفويّة التي لا تعرف إلا الصدق سبيلا، أم الحنين إلى غوامض في عوالم الرّوح، لانعرف مصدرها، ولكنّنا نشعر بهبّات عطورها الفاغمة؟! تُرى أهذا كلّه من البيت وما فيه أم أنّ البشاشة العفويّة الطّافحة في وجه صاحب البيت، والتي.. حين طالعَ وجهه أحسّ أنّه يشمّ رائحة البابونج في البراري؟! فجأة قفز إلى ذهنه بيت مفرَد من الشّعر كتبه ذات يوم، ونسيه، ولم يضف له ثانيا:

بيني وبينَ بيوت “اللّبْنِ” آصرةٌ        أنّا من الطّين كُوِّنا على مَهَلِ

***

دخل لزيارته، ولولاه لقال إنّه في عُزلة نادرة، وكلاهما يفهم الآخر من نبرة صوته، أو من لمعة خاطفة في العين، قال له مبتسماً:” ما بك؟! أرى ثمّة إشراقة في أعماقك”، قال: “ومثلك مَن يرى، صدّقني لا أدري، منذ يومين وثمّة نفحة رحمانيّة في هذه الأعماق، وهي حين تأتي تجعلني أرى الأشياء أكثر شفافية، والأعماق أوضح انكشافا، تمتزج فيها الغبطة الخفيّة بالحزن الشفيف المؤنِس، فأنا مقيم بين دمعة تكاد تنسكب، وزهرة تتفتّح على شفتيّ، شيء له علاقة بالغامض الحميم الذي نحسّ به ولا نعرفه جيّداً، فيه شيء من الحنين إلى عوالم لم أرها بعد..”، وفاضت عيناه بدمع رقيق.

aaalnaem@gmail.com