ثقافةصحيفة البعث

رؤى.. عن المرأة

محمد راتب الحلاق

قضية المرأة نسق أساس في أي مشروع نهضوي بقصد توظيف الطاقات المعطّلة في خدمة الأهداف العامة للمجتمع، وهي قضية سياسية بامتياز، هذا إذا فهمنا السياسة على أنها مشروع يقوم على تنظيم قوى المجتمع، وإدارة شؤونه عبر مؤسسات فاعلة تسمح لكل مواطن أن يتبوأ المكان الذي تؤهله له كفاياته، بغض النظر عن جنسه، وعن أية اعتبارات أخرى، ومن بواكير ما يسمى بعصر النهضة العربية، تم التنويه بأهمية دور المرأة في بناء المجتمع، كما تمّت الإشارة إلى حقوقها المهضومة: كأنثى، وكإنسان، وكمواطنة.

لم تتخلّف المرأة العربية عن المشاركة في صياغة الخطاب النهضوي المتعلق بقضيتها خصوصاً، وبقضايا المجتمع عموماً، وإن تم التعتيم على هذه الحقيقة لزمن طويل، فالمرأة الموءودة في طيات العادات والتقاليد والأوهام رفعت صوتها لتسأل عن حقوقها المضيّعة، ولتؤسس لنفسها حقوقاً سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية كانت محرومة منها.

ومن حق المرأة، الموءودة في طيات الثقافات الإنسانية عموماً، أن تسأل عن شرعية ذلك الوأد، ومن حقها أن تعمل في سبيل التحرر، لتكون نداً للرجل، بوصفها إنساناً كامل الإنسانية.

أقول نداً ولا أقول خصماً للرجل، فتحرر المرأة لا يكون بمحاربة الرجل، ولا بقهره، كما ظنت بعض الحركات النسوية، وإنما بالوعي بالذات الذي ينتج وعياً اجتماعياً يبيّن لها أن حقوقها ليست في عهدة الرجل، وإنما في عهدة المجتمع الذي من عاداته أن يهضم حقوق الضعاف، من الرجال والنساء على حد سواء.

وعندما تمتلك المرأة حداً مناسباً من الوعي الذاتي، تدرك أن شعار تحرير المرأة شعار زائف وأقرب إلى الوهم، لأنه يضمر دونية ما حين يجعلها بحاجة لمن يحررها، كما أن فكرة تحرير المرأة تضمر “خلفاً” منطقياً خطيراً، إذ كيف تتوقع المرأة أن يحررها المستفيدون من قهرها؟!.

ثم إن عملية التحرر نابعة من الذات، أما (التحرير) فعملية قادمة من الخارج، ولاسيما حين تكون المرأة مغيّبة عن المشاركة في صنع القرارات المتعلقة بها، أو حين تكون مشاركتها صورية (مجرد ديكور).

والتحرر، إن كان يعني الندية وتكافؤ الفرص والمشاركة في صنع القرار، فإنه لا يعني المساواة بالضرورة، لأن فكرة المساواة تضمر هي الأخرى نظرة دونية إلى المرأة، حين تجعل من الرجل النموذج والمعيار والمسطرة التي تقاس بها الأمور؟! التحرّر يعني العدل، ويعني الاستقلال الذاتي، والعدل يعني أن ينال كل فرد إنساني حقوقه كاملة، بما يتناسب مع إمكاناته واستعداداته الفردية، فثمة فروق فردية حقيقية لابد من أخذها بعين الاعتبار، لأن المساواة بين الأفراد لا تصح، وتغدو ظالمة بين الرجال أنفسهم، وبين النساء فيما بينهن، وبين الرجل الفرد والمرأة الفرد، المساواة المقبولة هي بين جملة الرجال وجملة النساء في المجتمع، والعدل لا يتحقق، وإن بالحدود الدنيا، إلا في مجتمع يقوم على مؤسسات مستقرة وفاعلة، حيث يكون الجميع خاضعين لأحكام القوانين التي تعطي حقوقاً متكافئة للمواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الإثنية أو الدينية أو المذهبية، وبغض النظر عن جنسهم البيولوجي.

تحرير المرأة لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحوّل أسلوب معالجة مشكلة المرأة في المجتمع من مشكلة إنسانية إلى معالجتها كمشكلة اجتماعية وسياسية، لأن عملية التحرر عملية تغيير جذرية، في الأفكار والأذهان والممارسات والوقائع، وليست مجرد عملية إصلاح أو ترقيع، والمرأة العربية مطالبة قبل الرجل، ومعه، بإعادة قراءة التراث المتعلق بالمرأة، لفهمه وتأويله بصورة مختلفة عما استقر في الأذهان، وعما تناقلته الأجيال دون تمحيص، ولاسيما ما يتعلق بشؤون المرأة.