ثقافةصحيفة البعث

العبارات الماكرة !

واحدة من أكثر العبارات التي تثير الريبة والاستغراب فعلاً، رغم أنها تمرّ على الناس مرور الكرام دون أي تمعن في حيثياتها الفعلية وماذا تعني أو ماذا يقف خلفها مجازيا، هي العبارة التي تضعها معظم المجلات الفكرية والثقافية والبرامج الحوارية وغيرها، على ذلك المقال المنشور في مجلة ما، أو ذاك الرأي المطروح في برنامج تلفزيوني وحتى على بعض منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وهي عبارة: “الآراء الواردة في الوسيلة، لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الوسيلة بل عن وجهة نظر كاتبها”!، وفي هذه العبارة الكثير من الرياء والنفاق والتهرب من تحمل المسؤولية، فإذا كانت تلك الآراء لا تعبّر بالضرورة عن رأي الوسيلة، فإن نشرها لا يعني سوى تبنيها، وفي التبني مسؤولية لا يمكن إنكارها، لذا نهضت من بين الركام اللغوي المترجم هذه العبارة، التي تفتقت عن عقلية تجارية بحتة للتسويق أولا، وللتملص الشكلي من هذا التبني بغرض تجنب أي مساءلة، وهكذا تبدو–أي الوسيلة- حيادية فيما تقدّم، وتحترم الاختلاف! مع أنه لا يوجد أي وسيلة لها توجه فكرى أو فني أو فلسفي أو سياسي أو حتى له علاقة بالطبخ والنفخ، إلا ولها اصطفافها، مهما حاولت التعمية على ذلك بمقولات استهلاكية و”تعموية” مثل “الرأي والرأي الآخر/ حرية الرأي/ صوت المبحوح صوتهم/ ومثيلاتها” من هذا الهراء الذي له نفس الأسباب ويسعى لنفس النتائج، والعجيب أن يقبل صاحب الرأي بالموضوع، وكأنه يكتب مقالا عن فوائد الكوسا والزنجبيل! أو يدلي برأيه الحصيف عن كيف تواصل الدلافين بين بعضها البعض؟

شبه التملص هذا من المسؤولية الأخلاقية أولا والفكرية وحتى المهنية والإنسانية بالتأكيد، غير مجد ولا يُقنع حتى الأطفال، عدا عن ذلك ما من ضرورة له حتى أنه بلا معنى، بل فيه ما فيه من التناقضات الصارخة، فهل من وجهة نظر لـ “المركز-الوسيلة” واضحة ومعبرة عنها بعيدا عما تقدمه من “آراء” تحت طرح ” الآراء الواردة تُعبر عن رأي صاحبها”؟ سواء كان مقالا مكتوبا في مجلة أو في موقع الكتروني، أو رأي يُطرح في وسيلة كالتلفاز أو اليوتيوب وغيرها؟ وهل ثمة ما تقدمه هذه الوسيلة باختلاف أنواعها، من مقالات وآراء يحمل توقيعها، لتميز وجهة نظر الآخرين عن وجهة نظرها؟ وعليه يكون السؤال البديهي: في أي اتجاه تستدير هذه الوجهة وأي نظر هو المقصود؟

هذه العبارة المهجنة، تظهر في اليوم عشرات المرات على شاشات التلفزة، وفي المواقع الإلكترونية المتخصصة، -وكانت قبل الكورونا تظهر في المجلات الفكرية أو المعرفية، الثقافية، الفلسفية، الاجتماعية، حتى- هي في جوهرها مثلها مثل العبارة الترويجية الخبيثة التي تُكتب على علب التبغ “التدخين يسبب السرطان والموت”، وهي فعلياً تخاطب اللاوعي في الذهنية العامة، وفق مفهوم سائد: “كل محظور مرغوب”، وهكذا تزيد الرغبة بمنتجها وبالتالي مبيعاتها، أو تلك العبارات حمالّة الإيحاءات المبطنة والمختومة باللون الأحمر لرمزيته هنا “للكبار فقط” التي تضعها دور السينما التجارية على واجهاتها عند عرضها لفيلم ما، لتجعل “ريالة” المراهقين تشط على ما تَعدّ به تلك العبارة من إثارة وإغراء يدغدغان خيالهم بما يهجسون به في هذه المرحلة العمرية المضطربة العواطف، المرتبكة الأفكار.

فإن كان التبغ قاتلا، لماذا يُسمح بصنعه وبيعه للناس؟ وإن كانت الفئة العمرية تهم دور العرض السينمائي حسب الفيلم الذي تعرضه، فلماذا نرى تلك الدور مكتظة بالمراهقين؟ وفي حال كانت الوسيلة لا تتبنى الرأي الذي تنشره أو تعرضه، فلماذا تنشره أو تعرضه؟

عزيزي القارئ، في حال قرأت مقالا أو شاهدت ندوة حوارية على وسيلة ما، وقرأت العبارة إياها أو سمعتها من مقدم البرامج ذاك أو غيره، فكن واثقا أنها ليست فقط تتبناه، بل هي من تستجلبه وتستورده، هي من ترفع أعمدته وتصب سطحه في الخفاء، فالأشياء العميقة تظهر على السطح، كن واثقا من ذلك.

تمّام علي بركات