ثقافةصحيفة البعث

بندر عبد الحميد.. ترميز وتأويل يتيحان لقصيدته تعدد الالتباس!!

لم تفصل بيننا وبينه المسافات، هو شاعر لايزال دمه يحمل لونه الأخضر، مع شاعر لايزال كثيرون يتقربون من اسمه، أجمع الناس على شخص بندر عبد الحميد، وعند رحيله لم تُسمع كلمة واحدة إلا لصالحه، وكانت الندوة الشهرية الرابعة عشرة من “قامات في الفكر والأدب والحياة” بعنوان “بندر عبد الحميد.. دهشة السينما وصورة الكلمة”.

سلطة الدلالة

تقوم الشعرية عند بندر عبد الحميد على خدمة المعنى والوفاء حتى النهاية، وليس نسفه أو الهروب منه، إذ على النقيض من نزعات شعرية كثيرة ارتبطت بالتجريب والتجديد، وعن الشعر والمعرفة عند بندر عبد الحميد قال د.عابد إسماعيل:

بندر عبد الحميد شاعر يتوخى القصيدة – المرآة، التي تستمد صفاءها من اللقطة السينمائية الخاطفة، بعيداً عن تعقيدات القص والمزج والمونتاج، ويسعى إلى الجملة الواضحة التلقائية والسهلة، كما أنه يسعى إلى إعادة الاعتبار لعلاقة الدال والمدلول بعدما تعرضت لخلخلة كبيرة وصارت موضع تساؤل وريبة، لكأننا به يريد أن يؤسس لما يمكن تسميته بالقصيدة التواصلية تارة ينقلنا إلى مناخ رعوي بريء حيث آدم وحواء والأفعى يعيدون كتابة سفر السقوط إلى الجنة الأرضية من جديد، وتارة أخرى يسلط الضوء على عالم تكنولوجي معقد غني بحروبه وأساطيله وطائراته ومجاعاته، وبين تلك البراءة المفقودة وهذا الجحيم الحاضر يجد الشاعر أفقه الحيوي.

في ديوانه “حوار من طرف واحد”، لا يقدم الشاعر مونولوجاً تغطس فيه الرؤية الشعرية في بئر الاستبطان والنورية، بل يجترح حواراً نرى من خلاله ذات الشاعر مكشوفة وعارية تستقبل العالم البراني بكل ضجيجه وتناقضاته وشوارعه وضحاياه، والمتكلم في الكتاب مغامر خبر العالم وذاق طعمه.

يلمس القارئ غياباً شبه كلي للحس الرثائي في قصيدة الشاعر، وتغييباً مقصوداً لما يسمى بالتوتر الداخلي، يتحدث الشاعر في معظم قصائد الديوان بلسان “نحن” أو بلسان “هو – هي” أو “أنت”؛ وعندما يستخدم “الأنا” نراه يهرب من تنميط أو نمذجة الصوت الفردي ويقدم ذاتاً جمعية تنصهر فيها سيمفونية من الأصوات.

مقام الشعر

يولد الشعراء ويموتون فلا تهلل زهرة واحدة لميلادهم، ولا تلعلع زغردة قبر واحدة احتفاء باحتضانهم، يولدون كغيرهم ويموتون كباقي البشر ويمشي قلة في جنازاتهم، فهل هو ثأر الزمن من تلك الفئة التي طالما ملأت الساحات ضجيجاً؟ أم هي دعوة إلى إعادة النظر في الأوهام السابقة والانطواء على الذات؟ وعن تنويعات على مقام الشعر تحدث الأديب سامي أحمد:

الهزائم المرة لا تدع مجاناً لخيار، اللهم إلا في تبني مكاسبها وربما تنميتها أيضاً والشعراء بما هم الأكثر رهافة وحساسية لتقلبات الطقس قد تدفعهم إلى الطرف الأقصى حيث اليأس شامل ومهيب وبطولي، لا شك أننا جميعاً سوف نحصد من جراء ذلك حصاداً وفيراً فثمة إعادة اكتشاف للحقيقة الفردية كتأمل واستبطان غير مكافئ للأشياء، إن المجال الممكن لهذا الاستبطان هو النص الذي يشكل البؤرة الأكثر كثافة لاستيعاب الوجوه واستنفاذه وحيث يتمركز النص باعتباره جوهر الكينونة لا يعود ثمة أمل للقيمة في بقائها معلقة بلا تاريخ، معتصمة بحيادها المطلق وهيمنتها الشاملة، وهنا تعبر القصيدة عن نفسها بلغة ساحرة متحركة تخاطب الأعصاب والحواس أما الروح فتسحرها وهنا تكمن بينة القصيدة المستمرة عند بندر عبد الحميد في حضور مفاهيم الترميز والتأويل التي تتيح لنصه تعدد الالتباس.

استطاع بندر عبد الحميد أن يعبّر بقصيدته نثرياً بالوزن وشعرياً بالنثر وشعرياً بالوزن منذ بداياته في أواخر ستينيات القرن الماضي في مجلة العربي، حيث نشر في بداياته قصيدة عمودية بعنوان “البلبل الغريد” 1968.

كون من حب

وبندر عبد الحميد من المخلوقات النادرة التي يصعب الحديث عنها، ويعجز المرء إن أراد البحث عنها، ولا يستوعب الإنسان وجود مثيل لها على أرضنا، أو في مدائننا العربية المكتظة بالمثقفين، وبدوره تحدث مدير الندور د. إسماعيل مروة عن بندر الإنسان والصديق فقال: بندر على الصعيد الأيديولوجي لا يتحدث عن شيء أبداً، وأزعم أن كثيرين ممن يظنون أنفسهم قد خالطوه لا يملكون دليلاً على توجهه وميوله وأيديولوجيته ليس لأنه يخفيها، بل لأنه لا يتعامل مع الآخر على أساسها ولا يضعها شرطاً للتعامل.

بندر عبد الحميد كان إنساناً حراً له قناعاته وحياته التي لا يتنازل عنها ولا يفرضها على أحد. أما على الصعيد الشعري فهو حالة مختلفة جداً، فقد كان من أهم شعراء سورية في السبعينيات والثمانينيات، وقد صنفه دارسو الأدب الحديث في سورية والعالم في مكانة متقدمة، فشعره يتمتع بصوت حداثي، ومع ذلك هو لا يعير بالاً لشعره ولا لدواوينه ولا إعادة طبعها وهذا دليل على أهمية الشاعر الفلكية والشعرية، يعيش حالته ويبدع قصيدته وينطلق إلى الآفاق البعيدة دون أن يتعلق بقصيدته ويتغنى بها، ويبدأ قراءتها وتلاوتها على كل زائر وبين يدي كل صديق.

بندر عبد الحميد الإنسان، وهي صفة من أهم الصفات، عندما طوى أوراقه ورحل كتب الجميع عنه، ولكنهم أجمعوا على حبه، ولم أجد شخصاً أجمع الناس على حبه والإشادة به كما فعلوا مع بندر، وأزعم أن ذلك كان غريباً ولا ينطلق من شخصياتهم ولا من آرائهم، بل من كون بندر الصديق الودود والإنسان المتميز بحبه، فهو يتعامل مع الجميع بحب، وإن كان لا يحمل الود لأحدهم فلا يتأفف ولا يتذمر ولا يظهر أي ردة فعل في حضوره والغياب.

جُمان بركات