ثقافةصحيفة البعث

التطوير واجب ثقافي.. ولكن!

عندما بدأت بالكتابة، وذلك بشكل عفوي على غير قصد، أذكر أنني بدأت بحفظ ديوان عنترة العبسي وأنا في الصف السادس، وكنت أركز بشغف على مبادئ الرجولة والشجاعة التي تبهر القارئ وهي تتسرب إلى روحه كقيم تتكاثف وتنمي الشخصية الفردية التي من شأنها أن تطرب لمثل هذا الشعر الذي يعتبر حالة مهمة عند العربي الحقيقي، وعلى سبيل المثال تعالوا نقرأ لعنترة:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي/ حتى يواري جارتي مأواها

هذه القيمة التي تجلّت بشكل عفوي في مكونات البيت كانت ترافق سلوكاً آخر عند عنترة العبسي الذي يستحدث عليه الآن اعتبار ترك الجارة بلا “معاكسة” أو “تلطيش”، أو مثّل ذلك حالة مخالفة للمنظومة التحررية التي رافقها تأقلم مع مسايرة الغريب، واعتبار التعامل مع الغازي والمحتل بشكل إنساني، وهذا ما ألفناه في اعتبار ريتا مثلاً أعلى بعد تغزل محمود درويش بها وهي ابنة لمحتل، حيث أعطاها اسمها على اسمها الحقيقي (تمار بن عامي)، على حين كان يقول عنترة وهو يدافع عن حبيبته ابنة أصله:

فوددت تقبيل السيوف لأنها/ لمعت كبارق ثغرك المتبسّم

لماذا كان أهل هذا الحب يموتون من أجل “حريمهم”؟ ولماذا دعاته اليوم الذين يعتنقونه على “نسائهم المخبأة” أصبح قسم لابأس به منهم في بلاد هي إن لم تكن محتلة كتركيا فهي محرضة كألمانيا، أو مساندة لكيان غاصب كأمريكا، وما هو العيب في بيت الشنفرى الذي قال:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن/ بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

سيقول لي قائل: التحديث والتطوير هو واجب ثقافي، ومن قال إن التطوير حالة سلبية، فكل ما كتبه بدر شاكر السياب، وبعض ما كتبه نزار قباني، وكل ما كتبه أمل دنقل، وبعض ما كتبه يوسف الخطيب من شعر تفعيلة، هو تطوير، رغم أن التفعيلة هي بنت شرعية منتمية للبحر الذي اعتبر الشطرين مذهبه الشعري، وموسيقاه النغمة البنيوية له، وليس عيباً أن نطور كل أدواتنا، لكن الطائرة عندما يطورها صنّاعها تصبح أكثر فتكاً وأشد تعقيداً.. لماذا إذا أردنا تطوير الشعر يصبح منعدم التأثر ومنعدم البنية إلى حد تجرأ التطوير أن يربط الثقافة بأثرها بالشكل ومتغيراته أو تغيره؟

ليس غلطاً أن تكون كل الأجناس الأدبية مكونات ثقافية بدلاً من التركيز على جنس واحد، فلم يكن الجاحظ أقل من المتنبي، بالعكس كان أهم منه بما اعتنقه من مبدأ، وقدمه من تطوير وتحديث، فهو مبتكر القصة القصيرة جداً والمدهشة التي نعتبرها الآن من إنجازاتنا بسبب عدم اعتناق المثقف القراءة، واعتماده على ما يقدمه “النت” من “همبرغر” ثقافي قاتل على مر الأيام.. تعالوا نطور، ولكن أن نضيف على ما قدمه الآباء والأجداد.

وليس صحيحاً أن نمتثل لدعوة من قال: “لا يتطور الشاعر إلا إذا قتل أباه”.. تعالوا نطور، ولكن دون أن نعتبر الانتماء ضعيف الاستيعاب، وهذا هدف العدو بكل أدواته التي نشربها دون أن ندري.. تعالوا نكون معاً في الماضي والحاضر لنضمن سلامة المستقبل، فالثقافة هي شخصية الفرد، والفرد المكوّن الأساسي للمجتمع، فلم يختلف أبداً طرفة الذي قال:

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه/ فكل قرين بالمقارن مقتد

لم يختلف مع الناثر قس بن ساعدة، ولا مع الأحنف بن قيس؟ فلماذا نختلف وتكبر الطحالب، إن لم تكن هناك أشياء وراء الأكمة، فيجب أن نقرأ جيداً، ونعتبر الأرض هي القيمة.. جميل أمل دنقل في قصيدته “لا تصالح!” إلى حد الدهشة بكل تفاصيلها، وجمل نزار قباني في قوله:

ودمشق أين تكون قلت ترينها/ في شعرك المنساب نهر سواد

وجميل قول السياب: “عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر”.

وجميل قول الجواهري:

وحين تطغى على الحران جمرته/ فالصمت أفضل ما يطوى عليه فم.

محمد خالد الخضر