دراساتصحيفة البعث

نهاية غير منظورة لحرب واشنطن للسيطرة على العالم

 ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد

وصف الفيلسوف المجري البارز لوكاتش دور الولايات المتحدة الأميركية في العالم مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بالكلمات التالية: “في فترة ما بعد الحرب، اقتنصت الولايات المتحدة موقع القوة الإمبريالية الرئيسية في العالم شاغلة بذلك موقع ألمانيا النازية في الماضي، واستطاعت الطبقة المسيطرة في هذا البلد الحفاظ على الأشكال الديمقراطية بدرجة ناجحة، الأمر الذي مكّن الولايات المتحدة عبر الأساليب الديمقراطية الشرعية من إقامة ديكتاتورية الرأسمالية الاحتكارية بنجاح مماثل لما فعله هتلر باستخدام وسائل القمع والاستبداد، وهذه الديمقراطية المزعومة نجحت في تحقيق كل ما سعى إليه هتلر”.

مذهب الأبواب المفتوحة

إن مذهب الهيمنة الأمريكية كانت بمثابة التعليل والغطاء الأيديولوجي للنزعة التوسعية للولايات المتحدة، وكان لهذا التعليل عدة جوانب منها اللاهوتي والحقوقي الدولي الاقتصادي، فمثلاً مذهب (القدر المحتوم) الذي طابق (التوسعية الأمريكية مع الإرادة الإلهية) العنصر اللاهوتي، ولعب مذهب مونرو دور العنصر السياسي الحقوقي، أما مذهب (الأبواب المفتوحة) فكان العنصر الاقتصادي لعقيدة وممارسة النزعة التوسعية. ويقول وليم وليامز: إن سياسة الأبواب المفتوحة كانت موجّهة نحو خلق الشروط والظروف التي في ظلها تكون الولايات المتحدة عن طريق استخدام تفوقها في مجال القوة قادرة على بسط النظام الأمريكي في العالم، غير مثقلة نفسها بعبء وعدم فعالية الاستعمار التقليدي.

لقد تشكّلت الامبراطورية الأميركية على أساس استراتيجية وتكتيك الأبواب المفتوحة، وحدّد هذا المذهب العالم كسوق عالمية يجب أن تكون أبوابها مفتوحة على الدوام أمام الولايات المتحدة الأمريكية. علاوة على ذلك منحت الولايات المتحدة نفسها حق التدخل كضمانة لاستمرار فتح الأبواب وكضمانة بأن هذه الأبواب ستظل مفتوحة دائماً، ونظر الرئيس روزفلت إلى مذهب (الأبواب المفتوحة) بنفس درجة نظرته لمذهب مونرو. يضيف وليامز قائلاً: إن تاريخ الإمبراطورية الأمريكية بعد انتهاء الحربين العالميتين، وخاصة  بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية هو عبارة عن عملية (عولمة) لهذه الإمبراطورية بواسطة استراتيجية (الأبواب المفتوحة) المؤدية إلى تعاظم الاستيلاء على الأسواق العالمية، وفرض الهيمنة والزعامة السياسية للولايات المتحدة، واعتمدت هذه الاستراتيجية ولا تزال تعتمد حتى وقتنا الحاضر على أعمدة ثلاثة:

  • تأسيس امبراطورية وإدارتها.
  • تأسيس مؤسسات الزعامة والهيمنة التي تحافظ على هذه الامبراطورية وتمنحها الشرعية.
  • الردع الفعال لجميع الدول التي قد يمكن لها أن تتحدى السلطة الامبراطورية الأمريكية .

العالم بأسره حدود أميركا

يُروّج منظّرو الإمبريالية الأمريكية المعاصرة، مثلهم في ذلك مثل المنظّرين السياسيين الألمان الفاشيين، لفكرة الحدود المتحركة لفريدريك جاكسون تيرنر، فعلى سبيل المثال يحدد عالم السياسة الأميركي ويلس حدود الولايات المتحدة بالكلمات التالية: “هذه الحدود موجودة في كل مكان وفي أي مكان يمكن الوصول إليه، أميركا تصارع على مجمل الكرة الأرضية”. في هذا السياق نظرت الولايات المتحدة لمعاهدة يالطا، التي حدّدت مناطق النفوذ بينها وبين الاتحاد السوفييتي السابق، كعقبة أمام فرض هيمنتها العالمية، ففي مذكراته أشار السيناتور فاندربيرغ، الصديق القريب من الرئيس فرانكلن روزفلت، إلى أن روزفلت صّرح له أن مهمتنا الرئيسية في المستقبل تكمن في إلغاء معاهدة يالطا. ولأجل ذلك كان من الضروري تحويل منظمة الأمم المتحدة إلى أداة للسياسة الخارجية الأميركية. في أعماله عن الأهمية الجيوسياسية للحدود المتحركة يلاحظ الجنرال هاوس هوفر أن كتاب فريدريك تيرنر (أهمية الحدود في التاريخ الأميركي) كتب في الوقت نفسه تقريباً الذي كتبت فيه أعمال بروكس أدمز والأميرال ماهان، فقد أعد هؤلاء المنظّرون السياسيون الأساس الفكري للموقع الراهن للولايات المتحدة كقوة عالمية، كما أنهم ربّوا رجال السياسة البارزين الذين وضعوا الولايات المتحدة على طريق فرض هيمنتها وزعامتها في العالم، ويقول وليامز: “إن النظريات الجيوسياسية القديمة لفريدريك تيرنر وماهان وبروكس أدمز في نهاية القرن التاسع عشر، ولدت مرة أخرى في أشكال جديدة تتكيف مع  الظروف التاريخية المعاصرة”.

ليس من قبيل الصدفة أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991 قامت الولايات المتحدة باستخدام يوغسلافيا كميدان تجارب لفرض نظامها العالمي الجديد، ومذهب الحدود المتحركة الذي لا يعترف بأية معاهدات دولية، ومن حيث الجوهر يمكن القول: إن تفتيت واحتلال يوغسلافيا يعد تصويراً واضحاً للديناميكية التعسفية (للفكرة الحدودية) في السياسة الخارجية الأميركية. ففي الفترة السابقة للحرب العالمية الثانية وفي أثناء هذه الحرب احتل عالم السياسة نيكولاس سبيكمان مرتبة الأيديولوجي الرئيسي للطغمة العسكرية في الولايات المتحدة، تلك المرتبة التي احتلها الأميرال ماهان في السابق، وعرض سبيكمان المبادئ الأساسية للجيوسياسية الأميركية في كتابيه (الاستراتيجية الأميركية في السياسة العالمية) في 1942 وجغرافية النظام السلمي في 1944. وتماس أفكاره الأساسية مع تطور الأفكار الرئيسية التي تشكّلت في فجر التوسع الأميركي الإمبريالي: حتمية التوسع الجغرافي ونظرية الداروينية الاجتماعية للصراع الأبدي للجميع ضد الجميع في العلاقات الدولية، وعبادة القوة والقناعة بأن الأقوى يحق له دائماً إخضاع الأضعف، وفي سعيه لتعليل العدوانية الأميركية، يقول سبيكمان: “إن شكل الأرض نفسه يلغي الأخلاق ويعطي الّمبرر لتدمير الضعفاء من قبل من لديه القوة”. وفي كتابه “الاستراتيجية الأميركية في السياسة العالمية” الذي ترك تأثيراً كبيراً على الرئيسين فرانكلن روزفلت وترومان يقول: “إن كل أشكال العنف بما فيها الحروب المدّمرة مباحة في المجتمع الدولي، وهذا يعني أن الصراع على القوة، والذي يماثل الصراع من أجل البقاء وتحسين موقع القوة، هو الهدف الرئيسي للسياسة الداخلية والخارجية للدول، وبالقوة فقط يمكن بلوغ أهداف السياسة الخارجية. القوة تعني القدرة على البقاء والقدرة على فرض إرادتك على الآخرين وإملاء الشروط على من لا يملك القوة، وإمكانية الحصول على تنازلات ممن لديه قوة أقل”.

وانطلاقاً من النظريات المبكرة للقدر المحتوم للولايات المتحدة التي نظرت إلى التوسع الأميركي كإرادة إلهية لا يمكن إلا الإذعان لها، أكد سبيكمان على أن سياسة  القوة، أي سياسة العدوان الأميركية، تمثل ضرورة طبيعة مستقلة عن إرادة البشر، وطرح مفهوم اضمحلال وتلاشي السيادة الوطنية، حيث اقترح ألا يأخذ النظام الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بمبدأ تقرير المصير بل العكس رأى ضرورة توحيد دول العالم في بضع تكتلات كبيرة، وأعلن أن الدول الصغيرة، والتي ضم إليها فرنسا وإيطاليا، أصبحت أقل قدرة على الحياة مقارنة بالسابق.

هذه المعتقدات اتفق معها الرئيس روزفلت الذي اعتبر أنه لا يوجد لدى فرنسا أي مستقبل سياسي، لقد تركت أفكار سبيكمان أثراً كبيراً على فرانكلين روزفلت مثلما تركت أفكار الأميرال ماهان تأثيرها على الرئيس تيودور روزفلت في السابق. ففي عام 1900 وفي كتاب تحت عنوان (الزعامة الاقتصادية لأميركا) روّج المؤرخ بروكس أدمز للعنصرية الأميركية بدعوته لتحويل المحيط الهادي إلى بحر أميركي داخلي، وقامت مجموعة من المؤرخين تحت إشرافه بالتنظير لمبدأ استثنائية النظام السياسي الأميركي ومبدأ الاختيار الإلهي لهذا النظام، وأعلنوا حق ومسؤولية الولايات المتحدة في فرض نظامها السياسي في جميع أنحاء العالم. وإيماناً بفكرة الشعب المختار وسلطته الحتمية على العالم، شرعت هذه المجموعة من المؤرخين في إعداد الفروض الأيديولوجية للنزعة التوسعية الأميركية العالمية المقبلة. ففي محاضرته “القدر المحتوم للعرق الانكلوسكسوني” عبر المؤرخ جون فيسكي عن ثقته في اقتراب ذلك اليوم، الذي سوف ينتشر فيه النظام الأميركي (من القطب إلى القطب) وفي كلا القسمين من الكرة الأرضية وتفرض فيه هيمنة وزعامة الولايات المتحدة. وفي كتابه “علم السياسة والقانون الدستوري المقارن” الصادر عام 1890 أشار جون باردجيس إلى أن التنظيم السياسي للدول يحدده الطابع العرقي للسكان، والانكلوسكسون هم العرق للسكان وهم العرق السياسي الأرقى، ولذلك رأى أن أمام الولايات المتحدة رسالة تكمن في نشر نظامها في كل أنحاء العالم، ورأى هودزون مكسيم أن التوسع هو قانون الطبيعة ولن تكون الولايات المتحدة قادرة على الحياة إذا لم تخضع لهذا القانون، وقال: “إن قوانين الطبيعة التي كشف عنها دارون تجعل النزعة التوسعية الإمبريالية المصدر البيولوجي للولايات المتحدة، حيث إن الدولة مثلها مثل الكائن البيولوجي، وفي صراعه من أجل البقاء إما أن ينتصر وإما أن يموت هذا الكائن، ونتيجة للتفوق العرقي فإن الولايات المتحدة الأميركية سيكتب لها النصر”. على نفس المنوال أكد جيمس سترونج أن (إرادة الله تكمن في أمركة العالم).

وفي كتابه “مستقبل بلدنا المحتمل”، الصادر في عام 1885، أشار سترونج إلى أن العالم دخل في مرحلة جديدة من التطور التاريخي. مرحلة الصراع العرقي العدائي وأن العرق الانكلوسكسوني الذي يمتلك طاقة فريدة من أجل فرض مؤسساته السياسية يتحرك في كل مكان على الأرض، وسوف يتقدم إلى المكسيك ووسط وجنوب أميركا وإلى الجزر في المحيط، وبعد ذلك إلى أفريقيا وهكذا دواليك. إن الجيوسياسة الأميركية في السنوات الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية استندت في تطلعها لفرض الهيمنة الأميركية العالمية إلى الخصائص الأسطورية والخرافية، وإلى ما يسمى بالرسالة الحضارية للأنكلوسكسون عامة وللأمريكان خاصة، وفي محاولة لتعليل وإثبات التفوق المزعوم على الشعوب الأخرى، استند الباحثون الأميركيون إلى الظروف الطبيعية الفريدة والمحيط الجغرافي للولايات المتحدة، والتي في رأيهم تعد ملائمة لتحويل الأمريكان إلى شعب الله المختار.

يعتبر كتاب عالم الاجتماع والجغرافي الأميركي المعروف صموئيل هنتنغتون  “القوى الرئيسية المحركة للحضارة”، الذي صدر بعد الحرب العالمية الثانية، من الأمثلة الساطعة على تشابك وامتزاج العنصرية بالجيوبوليتكا بمهمة تعليل وإثبات الرسالة الحضارية للأنكلوسكسون عامة وللأمريكان خاصة، ولتحقيق هذا الهدف اعتمد على الجغرافية الطبيعية والنظريات الداروينية الاجتماعية المختلفة، وفي إطار الحديث عن القدرة المقارنة للأمم على الحياة نظر هنتنغتون إلى الولايات المتحدة وإنكلترا كأمة أكثر قدرة على الحياة في العالم. لقد أكد هنتنغتون في العديد من أعماله على أن الأمريكان هم العرق البشري الأرقى بيولوجياً .