ثقافةصحيفة البعث

“نادين باخص” تُخفي الأنوثة

لا تخفي “نادين باخص” في مجموعتها الشعرية الأولى “أخفي الأنوثة” تفاحتها المحرمة، تلك التي قطفتها من شجرة الشعر، باعتباره جنساً أدبياً ماكراً وماهراً في تأليب المعاني على اللفظ، وإيقاظ الشفيف من الكلام من عميق عتمته، كما أنها لا تخبئ الأنوثة في طيات اللغة ومحارم الحروف، لأن لمعانها وشدة بريقها هو حجابها عن الأعين الجاهلة التي لا ترى إلا البيت دون أن تدرك أن الطريق إليه هو الأجمل، تقول نادين في أول مساكب أنوثتها “أجواء”: “على الرصيف المهترئ سأبوح لجهلك لي/ فيك موت وإثم وحلم وحصاد كثير ذهب سنابله عصي على التملك”.

تملك صاحبة رواية “وانتهت بنقطة”، كياناً شعرياً وحيداً ومغلقاً، لا تذهب به نحو ابتكار أصالة فريدة من خلال استنهاض جوانياتها الحسية، وتوظيفها بخدمة الشكل، بقدر ما تحاول الإفادة من قراءات شعرية كثيفة تركت أثراً بدا جلياً في بعض القصائد التي تتكئ بها على ذاكرتها الأنثوية الخاصة، بعيداً عن الترنح تحت ضربات جنوح الخيال إلى ما لا يعلمه، مطمئنة بقصد أو بحس امرأة تعاني أنوثتها من إحباط أو صدمة من يمنح ويهب من روحه وجسده دون أي مقابل، ودون أدنى اعتراف بالفضل، لتطل الكآبة برأسها الميدوسي من قصيدتها الأجمل والأكثر نضجاً بين قصائدها “أشياء الغياب”، تقول فيها: “الآن أفهم معنى الكآبة/ يوم تعلّقنا بحبل غسيل لم نكترث بصدئه/ فخلعت قميصك وارتديني وأضربت عن تمشيط شعري كي لا تهرهر بقايا أصابعك من سواده المفتعل”.

اعتمدت نادين في “أخفي الأنوثة” على شعرية هامسة لم تدعها تصيح بحدة وانفعال نابع من مشاغل الشعر الانفعالي اللحظوي، لذا لم تترك قصيدتها في نفس قارئها الأثر الصادم والمدهش والمربك بآن كما ينبغي أن يفعل الشعر الذي ينتج عن دمج سحر اللغة مع متعة المتناقضات بين ما هو واقعي يكاد يكون خيالاً بتطرفه باهظ الوصف، وما هو خيال محسوس وملموس بواقعيته المفرطة، وذلك لتردد لغتها الشعرية بارتياد القصي والمجهول، وعدم السماح لصورها الشعرية العفوية بمغامرة الخطو في الفراغ، ليس بمعناه الشرطي أو المجازي، بل بأفقه الهاوي حيناً، والقمة حيناً آخر، كما أنها لم تنئ بثقل الماضي المحكوم بالرؤيا، رغم أنها اشتغلت على عناصر النثر المهمة في قصيدتها للإيجاز والتوهج، إلا أن هذا الاشتغال أغفل عاملاً مهماً وهو الاختصار، العنصر المكمل والجامع بين الإيجاز والتوهج، لتقع في فخ البوح المفرط، ومحاولتها ترميز العديد من الجمل والمفردات التي لا تحتمل هذا الثقل غير المتوازن مع الجو العام لديوانها الأول، ما أعاق خاصية التوهج بشكل خاص، وأحالها إلى المجانية الشعرية في بعض قصائدها كقصيدة “نقلاً من الأعماق” التي جاءت كشعر الهايكو الياباني في الشكل مع غياب كلي للمعنى غير المكتمل لفظياً: “مكنسة الهلاك تتسع لذرات غبارنا/ أقدام الحزن عششت فيك/ صليبي ينتظر متى يأتي جحيمك/ أنت مغلق الدوائر الناقصة في قصيدتي”، نلحظ كيف تغربت كحال أغلب الشاعرات والأديبات في العالم اللواتي يطغى عليهن الشعور بالهيمنة الذكورية حتى على خيالهن، الأمر الذي نلحظه في معظم نتاجهن الإبداعي، حتى لو كانت تلك الهيمنة ملونة بالرضى الشخصي.

مقتنعة بـ “ديكتاتوريتها الشهرزادية”، لا تخرج شاعرتنا من عقدة الاضطهاد، بل كرّستها بشكل كبير في “أخفي الأنوثة” بدافع الحب والمنح والعطاء، بدءاً من العنوان، مروراً بأغلب القصائد التي تتمحور حول الرجل بصفته الجنس الآخر، تقول في “اختناق التراب”: “لكن أنثاي حزينة، رجل خياراتي رجل منايا، يقرب ذبائحه لبقايا تراث، لأمطار يجثو، أنا جاهلة وحبيبي ينتظر”.

تستطيع باخص أن تخلع على مقتبساتها الشعرية حرارتها الخاصة وطابعها الشخصي ببراعة وذكاء، إذ إنها لا تبرر مسوغاتها في انتقاء العبارات الأكثر تشبعاً بالـ “د.ن.ا” الخاص بشعر ما مر ببالها ذات وحدة، آخذة في تعشيق قصيدتها بما علق في لاوعيها من أشعار أحبتها، مآخذ التسليم بنظرية النص المفتوح أو الكتابة فوق الكتابة، ولئن جاهرت في قصيدتها المهداة إلى الشاعر “محمود درويش” في أثره الواضح بوعيها الشعري، إلا أنها بقصائد أخرى توارت بتداعياتها الشخصية وانزياحاتها الفكرية بما يخدم نصها بطريقة عملية، وهذا ليس مأخذاً عليها بقدر ما هو اتكاء تبرره الحالة العامة لمجموعتها الشعرية الأولى ذات النفس الأنثوي البحت، خصوصاً في بحثها عن نفس ذكوري يعشّق قصيدتها بالتضاد المولّد لاختلاجات وجدانية لا قدرة لها في الخروج إلى العلن إلا عبر هذا التضاد المتصل المنفصل بطبيعته البشرية، نفس ذكوري لا يقل بحساسيته المرهفة تجاه الأشياء عن حساسيتها الذاتية نفسها، ويبدو أنها وجدت ضالتها المنشودة في صاحب “ورد أقل”، وهذا ما يتبدى بإحساسها بالطريقة الدرويشية في قصائد عدة كما في “باب القفص”.

لم تذهب نادين باخص بعيداً في بحثها بظل المتغيرات الكبيرة للعوالم التي تحيط بها عن لغة جديدة وخاصة تستطيع من خلالها أن تستوعب موقفها الشعري طالما أنها مطمئنة إلى موطئ قدمها، إذ ما من وثبة إلى المطلق والمجهول الذي يشي به عنوان مجموعتها، غافلة عن كون الشاعر بحاجة دائمة إلى خلق متجدد لأدواته الشعرية والفكرية، وفي مقدمتها لغته التي لا تعترف بالاستقرار، العائق الذي يعطل الروح الشاعرة عن انطلاقتها من الأقماط التي تشد حرية كل ما خُلق ليكون حراً، الروح الشاعرة لم تُخلق لحياكة الصوف، ولا لتمسك بقلم وحيد الشكل واللون يفض بكارة الورق، الروح الشاعرة دائمة التوجس مصابة بلعنة العبث تنهل من حكمته أعظم وأعتق ندمائها.

نادين باخص في “أخفي الأنوثة” لبت في شعرها نداء الأنثى الأزلي في داخلها، عندما علّمتها الحياة كأنثى عتيقة لأنثى مستجدة: إذا أردت أن تظهري شيئاً منك للعلن وأردت أن يصل صوته إلى السبع سماوات الطباق، فقولي إنك ستخفيه جيداً كي لا يراه أحد.

تمّام علي بركات