ثقافةصحيفة البعث

“عيد ميلاد” رواية على خلفية توثيقية للغائب الحاضر

“أنني أفتقدك كثيراً يا أمي” الجملة التي قالها سوهو لكن ليس بصوته بل بروحه في الفيلم الكوري “عيد ميلاد”- إنتاج 2019- إخراج لي جونج أون، والذي بُني على خلفية توثيق حادثة غرق العبارة “سي وول”  2014 في مياه المحيط إثر مواجهة تيارات بحرية وغرق عشرات الطلاب في المرحلة الثانوية أثناء رحلتهم إلى منتجع جيجو. وقد ابتعد المخرج عن إقحام مشاهد حقيقية من غرق العبارة أو التنويه بذلك من خلال نشرات الأخبار، إذ اكتفى بذكر الحادثة من زوايا إنسانية عبْر السرد الروائي للفيلم الذي دمج بين الحوار والاستحضار والذكريات والتخيلات والتوثيق الخاص لحياة الابن سوهو أحد الضحايا، فكان الفيلم رواية حزينة وانعكاساً لآلام الفقد وتصوير الحالة النفسية التي تعيشها الأم وتهيمن على واقعها رغم ممارستها حياتها اليومية بيأس ورتابة في المنزل وفي عملها محاسبة في مجمع استهلاكي، وولوجاً في علم النفس ليظهر اعترافات من الصعب البوح بها، إلا في حالة الانهيار والخروج عن السيطرة كما حدث مع الأب الذي كان خارج البلد يعمل في فيتنام وتعرض لانكسار وأغرق بالديون ودخل السجن، فأخذ سوهو اليافع دوره في الوقوف إلى جانب والدته بتحمل المسؤولية المعنوية والإحساس بالوجود الذي كانت تفتقده أكثر من حاجتها إلى المال، كما مرر المخرج بذكاء مشاعر الأطفال التي تتأذى من آلام الفقد أكثر من الكبار من خلال معاناة الأخت الصغرى لسوهو –بي سول- التي كانت تفترض وجود سوهو في الحياة باللاوعي، هذا ما بدا واضحاً في مشهد طلبها من والدها في المطعم أن تأكل نصف قطعة الحلوى وتترك النصف الآخر لسوهو.

الفيلم يظهر أيضاً أهمية الأساليب التربوية والنفسية في التخفيف من حدة الألم على الأهل والأصدقاء، ويبيّن اهتمام الحكومة بذلك من خلال مركز الدعم الذي عمل على التحضير لحفل غيابي لعيد ميلاد سوهو في المدرسة، المنعطف بالفيلم الذي غيّر من النهاية التي كانت تؤول إليها الأحداث.

واقعية وتفصيلية

اعتمد المخرج على الكاميرا الواقعية والبعيدة عن التكثيف والمتنقلة بين التصوير الداخلي للمنزل والمدرسة والخارجي ضمن إطار المدينة، فمرت المشاهد بطيئة منذ البداية، فمن مشهد الطائرة وعودة الأب من فيتنام إلى إنتشون وحركة الكاميرا المرافقة لحركة المطار، ثم سيارة الأجرة ومضيها في الشوارع والأبنية والسيارات وصولاً إلى منزل بارك سون الجديد والمفاجأة برفضها فتح الباب للأب. ليضع المخرج المشاهدين في صورة الخلاف الدائر بين الأم والأب والذي يتضح لاحقاً، ومن ثم تقرب الأب من طفلته الصغيرة بي سول محاولة منه لاستعادة عائلته بعد فقد سوهو.

الصورة الفوتوغرافية كانت أحد مكونات السرد السينمائي للفيلم، وأشبه بمتتالية توثيقية لشريط العمر وللتمسك بالشخص الغائب، فإضافة إلى مرور عدد كبير من الصور في المنزل والمدرسة في لقطات جماعية أو فردية مرر المخرج لقطة حينما حاولت بارك سون الأم إخفاء الصورة العائلية للأسرة في “تابلو سيارتها” كي لا يراها الأب في مشهد إلحاحها على الانفصال، فهي لم تضع صورتها مع ولديها سوهو وبي سول إذ اختارت الصورة العائلية برمزية إلى التمسك بالماضي.

المشهد المتكرر في الفيلم هو المنزل في إضاءة ليلية تعبيراً عن حزن الأم، وإقحام مشهد بدا غير مفهوم بتكرار إنارة ضوء المصباح بشكل تلقائي للحظات، يستدركه المخرج لاحقاً في تخيلات الأم عودة ابنها المفقود في مياه المحيط ودخولها غرفته والحديث الوهمي معه وإحضار الثياب الجديدة له لاقتراب عيد ميلاده من خلال مشاهد متلاحقة مؤثرة جداً.

استرجاع ومكاشفة

الخط الدرامي الأساسي كان اقتناع الأب بفكرة إقامة حفلة عيد الميلاد في مدرسة سوهو من قبل مركز الدعم والتحضير للحفل وإصرار الأم على رفضها ذلك، وبعد محاولات إقناعها وتدخل بي سول توافق، فيبرع المخرج في مشهد حفل الميلاد الذي شغل حيزاً من الفيلم بتصوير حزن الأم والأخت والأب وفي الوقت ذاته يبيّن مقدرات الشباب، ويقارب هذا المشهد الحفل التأبيني المألوف لاسيما بعرض بعض الأشياء الخاصة للمتوفى والكثير من صوره من مراحل ومواقف مختلفة، فبدأ بعرض فيلم توثيقي عن حياة سوهو ابتداء من مولده ترجم حبّه لوالدته وأخته ووالده وأصدقائه، وتوقف عند قراره تعلم قيادة الدراجة الهوائية وإنجازاته الرياضية بحصوله على الميدالية الذهبية وتعلمه العزف على الغيتار للمتعة وليس ليصبح عازفاً، وبعد عرض الفيلم تبكي الأم بحرقة وتسترجع اليوم الأخير يوم غرق العبارة فتتذكر كيف اتصل بها سوهو أثناء غرق العبارة” كأنه يستنجد بي”، وينهار الأب ويصرخ بشدة ويعترف بأنه عاد لأن سوهو كان يزوره في المنام ويطلب منه العودة إلى المنزل ومتابعة حياته مع والدته وأخته، والمؤلم أيضاً الكتابات التي كتبها أصدقاؤه عنه فكتب أحدهم “أتذكره حينما تهب الرياح العاتية” لتأتي رسالة صديقه على شكل قصيدة اعتراف من الابن لأمه بصوت صديقه “سألت أين أمي الحبيبة” ليعترف لها بأنه افتقدها واشتاق إليها، الضوء الذي ينير فجأة هو أنا، أنا أدخل إلى المنزل فأحضنك بشدة، وأتناول شيئاً من الطعام، كل هذا دون أن تشعري” ورغم المشاعر المؤثرة في المشهد الطويل إلا أن المخرج أشرك المشاهدين بتلمس الخيط الخفي الذي باح به الأب مع صديق ابنه وترجم ما يشعر به من عذاب كونه لم يفعل شيئاً لابنه كما ذكر في مشاهد سابقة. لينتهي الفيلم بمشهد يجمع بين الأم والأب والأخت وعودة الحياة المشتركة بينهم وتحقيق أمنية سوهو.

ملده شويكاني