ثقافةصحيفة البعث

فاديا الخشن: شاعرة تلتقط اللؤلؤ من المحار الراكد في أعماق اللغة

تعتمد الشاعرة فاديا الخشن على الصورة/ اللوحة، وتتميّز الصورة هنا أنها تقوم على الإدهاش والتكثيف والتنوع والمفارقة. وتنقل الشاعرة قلقها وتوترها إلى المتلقي، وقد حفلت قصائدها بالصورة التشكيلية التي تتميّز بأنها كثيرة الألوان، تستفزّ النشاط البصري للمتلقي، وكأنّها ترسم على الورق بالكلمات، فالشعر عندها مثل مركب هادئ تجري به الريح الرخية في مجرى هادئ، إنّها تلتقط اللؤلؤ من المحار الراكد في أعماق اللغة، فالشعر عندها:

هو غزوي وفتوحاتي

وجيوشي الكثيرة

هو وطني الذي من

صلصاله يستنسل الرحيق

إنّ جملتها الشعرية تأتي مليئة متدفقة بالمياه التي لا حياة في اللغة دونها، تريد بقصائدها أن تدهشنا، وتسعى إلى حالة الإدهاش من خلال بناء الصورة الفنية على المفارقة والتكثيف والاهتمام باليومي وتراكم الصور الجزئية تؤدي مع بعضها قصيدة كاملة:

الحاضر أعمى

والشارع أعمى

والكلّ يصرخ

من.. من أطفأ النور

لقد جسّدت الشاعرة ما هو يومي وجزئي وخاص في حياتنا اليومية، وتركت العناوين الكبيرة للأوزان الثقيلة، وتميّزت صورها بحسيتها وتشخصيها، وتعدّد ألوانها واتساع أفقها المكاني، واتكأت نصوصها على التكثيف والتركيز والاقتصاد في اللغة، وعلى امتداد عناصر الطبيعة في الإنسان:

يا حروبي الباردة

ويا موتي الرحيم

أنا المأخوذةُ بك

وقلمي.. أضواء المدينة

تسعى فاديا الخشن إلى كتابة القصيدة المكثفة، التي تقوم على الاقتصاد اللغوي، إنها تحاول أن تبني عوضاً عن التعبير، وتقوم على “خبطة” موسيقية أو لغوية أو إيقاعية أو فكرية، وتركز على اليومي والعادي والحياتي، كذلك فإنّ طريقة بناء القصيدة الحديثة تتضمّن العلاقات اللغوية والصورية والموسيقية والإيقاعية وعلاقة الأنا في داخل القصيدة بذات الشاعرة وبالعالم من حولها تقول:

لست عصفورة.. أهديك أمكنتي

لست نافذة.. أوقف زمنك على غلافي

لست مطراً.. أهبط إلى جذورك.. كي أصعد.. كي أكون

وأنا اللاهاربة في غابة.. فاعشقني كما يعشق القمر دميته السوداء

وتستخدم الأسطورة وتكثف القصيدة، وتعود لتستخدم لغة سهلة التداول يمكن الارتقاء بها إلى مصاف لغة ثانية، لغة قلقة لا تستقر على وتيرة واحدة، وهنا تبرز الخصوصية الشعرية التي تظهر من خلال المخيلة المتوثبة، فإذا كلّ نصّ يأخذنا إلى عالم جديد، عالم تشرق الشمس على ملكوته وعلى جمال الطبيعة فيه. ولكن من هي فاديا الخشن؟ تقول:

أنا عطر يفكر ونصّ لاقتلاع الموت.. أريد انتشال القلم النسائي من تهمة التبعية والتقليد.

إنّها مشغوفة بالجهد البشري لخدمة الإنسانية، وذلك حين تنمي فاديا الخشن جملتها الشعرية القادرة على كشف الزيف الأخلاقي والفساد، وفضح تجار الحروب ومثيري الفتن ومستثمري الحروب الأهلية، لتكون قد أصابت الهدف، فنصّها يفضح الزيف والدجل التي يقوم الرجل بخلقها في نفسه، إنّها تبدل كلّ يوم ريش مناراتها لحظة أن يطرد الرجل من كلّ شيء.. إلا الحب.

إنّها تحاكي الهموم الفردية والقلق الوجودي، وقد وجدت في أوروبا الغربة الروحية والانعزال، بعكس العرب الذين يعانون من القمع والقهر والرقابة، لقد تناولت في كتابتها وقصائدها مجمل الأحداث العربية والعالمية، وجاء شعرها وطنياً متنوعاً، رومانسياً بغلاف واقعي، ويميل إلى استحداث الصور الشعرية الواقفة على مخيلة تستطيع التعبير عن جماليات فائقة.

يسيطر على قاموسها الشعري الهوس بالرمزية والاعتماد على الرمز الأسطوري والتاريخي وغزارة الصور واللغة الغريبة، وهذه الأخيرة توسّع الحالة الشعرية عمقاً وغنى، إنّها تتمتع بشراسة طفل ولغته وتلعثمه في تذوق الحياة ومعرفة العالم:

الحبّ

أنا التي كلما مررْت

بخاطري

طاش خصري

وخرج نبضي عن الطاعة

إنّها تلعب معنا، واللغة المفضّلة هي اكتشاف اللغة، فتخرج المفردات والصور طازجة طرية تهتك الستر عن المخبأ والمخزون من أسرار النفس في تيار تتناوب عليه اندفاعات اللاوعي في دائرة الوعي المضيئة.

قبل الحزن كان

القمر رغيفاً فرحاً

سابحاً في فضاء الاكتفاء

وكان البحر ضحكتنا

الواسعة

وحقل القمح مهرجان

للشهوات

فهل يشرب الظامئ ماء

الخرائط

الشاعرة اعتمدت على مجموعة من الثنائيات لبلورة الرؤيا وتعميقها، فهي دائمة المقارنة بين الحاضر والماضي، بين اليباب والخصب، بين المجتمع القبيح والطبيعة الجميلة، بين الفرد النقي المعذب والمجتمع الملوث الظالم، وهي تجعلنا نشاهد الحروب التي لا أعداء فيها، إننا نخلق الأعداء فينا ونقاتلهم وننتصر على أنفسنا:

دلني يا طير على دولة

ترمم حروب الزير سالم

وتمحو عجاج داحس والغبراء

فاديا الخشن شاعرة من ذلك الزمن الذي تتوهج فيه أنوثتها مع قصيدتها، وتبرعم اللغة لكي تقدم قصيدتها، وتقول: إنّها القصيدة التي لا تضاهى في زمن أفول الشعر.

فاديا الخشن

وُلِدت من أب لبناني وأمّ سورية من دمشق، درست اللغة العربية في كلية الآداب، وعملت في الصحافة السورية لأكثر من عشرين عاماً، ثم انتقلت مع زوجها إلى الدانمرك، وهناك عملت في تحرير مجلة أطلس وطقوس، إضافة إلى ترجمتها لعدد من الشعراء الدانمركيين.

صدر لها المجموعات التالية: “نار منك تتبعني – المستأنس بينابيعه – الحبّ زحف مقدس – جمع المؤنث العاشق – السمكة الهاربة.. بداية بحر”.

وفي الرواية: “عرق السواحل”. وكتبت قصصاً للأطفال.

فيصل خرتش