دراساتصحيفة البعث

ذكرى جحيم القنبلة الذرية

د. معن منيف سليمان

استُعملت القنبلة الذرية مرتين في تاريخ الحروب، وكلتاهما كانتا أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما قامت الولايات المتحدة بإسقاط قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان أواخر أيام الحرب، أوقعتا أكثر من 140 ألف شخص معظمهم من المدنيين، كما أدّت إلى مقتل ما يزيد عن ضعفي هذا الرقم في السنوات اللاحقة نتيجة التسمّم الإشعاعي أو ما يُعرف بمتلازمة الإشعاع الحادّة. انتقدت الكثير من الدول الهجوم النووي على هيروشيما وناغازاكي، إلا أن الولايات المتحدة زعمت أنها أفضل طريقة لتجنّب أعداد أكبر من القتلى إن استمرّت الحرب العالمية الثانية مدّة أطول.

في السادس من شهر آب من كل عام، يحيي اليابانيون الذكرى الدموية لجحيم القنبلة الذرية التي أُلقيت على مدينة “هيروشيما” من قبل الجيش الأمريكي عام 1945، وبعد ثلاثة أيام تمّ إلقاء قنبلة ذرية أخرى على مدينة “ناغازاكي”. في الساعة الثامنة من صباح يوم السادس من آب لعام 1945 بدأ عالم جديد تماماً، عالم تحكمه قوة واحدة اسمها الولايات المتحدة الأمريكية، عالم تحكمه قوانين الذرة وألاعيب الأسلحة النووية التي باتت تُستخدم في وقتنا الحاضر كوسيلة ضغط سياسية وكوسيلة دفاعية إستراتيجية، فنسمع بين الحين والآخر أخبار التنافر والتجاذب بين المجتمع الدولي وإيران حول برنامجها النووي التي تؤكد أنه لأغراض سلمية، في حين تقول أمريكا ودول أخرى إنه يهدف لتصنيع أسلحة نووية. فمن أجل هذا السلاح النووي تحاصر أمريكا والعالم إيران، ومن أجله احتلت أمريكا العراق، ومن أجله أيضاً حوصرت كوريا الديمقراطية، ومن أجله تحدث العديد من المشكلات في مختلف أنحاء العالم بين الحين والآخر، في حين تتعامى أمريكا وغيرها من الدول الغربية عن “إسرائيل” التي تمتلك مفاعلاً نووياً يُسمّى مفاعل “ديمونة”، ولديها أكثر من مئتي رأس نووي.

مدينتا هيروشيما وناغازاكي اختيرتا لكونهما مركز اتصالات لتحركات الجيش الياباني، حيث لا توجد في أيّ من المدينتين مصانع عسكرية أو معسكرات ضخمة للجيش الياباني، والنقطة الأخرى التي أسهمت في اختيار المدينتين أنهما لا تحتويان سجوناً للمعتقلين من الجيش الأمريكي.

في وقت قصفها، لم تكن هيروشيما مدينة ذات قيمة صناعية أو عسكرية كبيرة، لكنها كانت مركز اتصالات، ومركزاً لتجميع المعدات والجنود. كانت المدينة أيضاً إحدى عدّة مدن يابانية لم تتعرّض للقصف الجوي الأمريكي المكثف، وبالتالي كانت هدفاً مثالياً لقياس مستوى التدمير الذي يمكن أن تسبّبه القنبلة!.

كان وسط المدينة يحتوي مجموعة من المباني الخرسانية القويّة، ومجموعة أخرى من المباني الخفيفة، أما أطراف المدينة فعبارة عن مجموعة مكدّسة من البيوت الخشبيّة الصغيرة، كان التعداد الأصلي للمدينة 388 ألفاً من السكان، انخفض في أثناء الحرب إلى 255 ألفاً نتيجة لعمليات الإجلاء التي قامت بها الحكومة اليابانية.

في السادس من شهر آب عام 1945، انطلقت الطائرة B-29 Enola Gay بقيادة الكولونيل “بول تيبيتس”، وصاحبَته في الرحلة طائرتان، إحداهما تحمل أجهزة تسجيل ومسح جغرافي، وأخرى للتصوير. في الثامنة والربع صباحاً، وهو موعد كان فيه سكان المدينة في طريقهم إلى أعمالهم، تمّ إلقاء القنبلة المسمّاة “الولد الصغير” على مركز المدينة، انفجرت القنبلة على ارتفاع نحو 600 متر فوق المدينة، وقد أدّت إلى الموت الفوري لنحو ثمانين ألف إنسان، في تلك اللحظة انقطعت كل أنواع اتصالات القيادة اليابانية مع هيروشيما، ولم يكن هناك من وسيلة لمعرفة ما حدث سوى بإرسال طائرة لاستطلاع الأمر. كان كل تصوّر القيادة أن هناك مشكلة ما في الاتصالات. بعد ثلاث ساعات من الطيران، وهو مازال على بُعد 160 كيلومتراً من هيروشيما، رأى الطيار سحابة هائلة من الدخان الأسود هي البقايا المحترقة للمدينة. هبط الطيار جنوبي المدينة التي لم يرَ منها سوى ما يشبه جرحاً كبيراً في الأرض يتصاعد منه الدخان الأسود، لم يعرف أحد في طوكيو حقيقة ما حدث في هيروشيما سوى من إعلان البيت الأبيض للأمر بعد 16 ساعة من الحدث.

بنهاية عام 1945 كان 60 ألف شخص آخرين قد ماتوا من التسمّم الإشعاعي، ليصبح عدد الذين ماتوا من جراء انفجار القنبلة المسمّاة “الولد الصغير” عام 1945، وحده نحو 140 ألف شخص. في السنوات التالية مات عدّة عشرات من الآلاف بتأثير أمراض مرتبطة بالإشعاع. وبحسب دراسة أجرتها المدينة في شهر آب عام 2004، قدّر عدد الذين ماتوا بتأثير القنبلة بنحو 237 ألف شخص، إضافة إلى 270 ألفاً تضرروا منها ومازالوا أحياء حتى اليوم.

كانت ناغازاكي واحدة من أكبر موانئ الجزء الجنوبي من اليابان، وكانت معظم مباني المدينة تتكوّن من المنازل الخشبية اليابانية التقليدية ذات الأسقف المائلة. لم تكن اليابان قد أعلنت استسلامها دون قيد أو شرط كما طلبت الولايات المتحدة بعد هيروشيما، فرأى الأمريكيون أنها تستحق قنبلة أخرى!!.

وفي 9 آب من عام 1945، انطلقت الطائرة B-29 Super fortress Bock’s Car بقيادة الميجور “تشارلز سويني” حاملة القنبلة المسمّاة “الرجل السمين”. كان من المفروض أن تلقى القنبلة على كوكورا، إلا أن الجو الملبّد بالغيوم دفع بالطيار إلى الاتجاه إلى الهدف الاحتياطي ناغازاكي.. في حوالي الحادية عشرة ودقيقتين صباحاً تمّ إلقاء القنبلة “الرجل السمين” على ناغازاكي. انفجرت القنبلة على ارتفاع 469 متراً في الجو بالقرب من مصنع ميتسوبيشي. أدّت القنبلة إلى الوفاة الفورية لـ75 ألف شخص من سكان المدينة البالغ عددهم 240 ألفاً، تبعهم 75 ألف شخص آخرين من الإصابات والأمراض التي نجمت عن القنبلة.

كان وزن القنبلة 4.5 أطنان وأحدثت دماراً قُدّر بـ90 بالمئة من مباني المدينة، إضافة إلى قوة تدميرية حرارية تعادل تدمير 20 طناً من الديناميت وامتد اللهب في دائرة قطرها 3 أميال، وتمّ تدمير كل ما يقع على مدار ميلين من مركز التفجير.

حتى الآن لا يوجد سبب منطقي واحد لقيام الأمريكيين باستخدام قنبلتين نوويتين، خاصة وأن الإمبراطورية اليابانية بالفعل كانت تحتضر، لكن السبب الذي تمّ إعلانه وقتها أن المقاتل الياباني مقاتل عنيد ولا يرضخ بسهولة، لذا كان لا بدّ من إرسال رسالة قوية لليابانيين لإجبارهم على الاستسلام، وهو ما حاول الأمريكيون على مدار 62 عاماً مرّت منذ إلقاء القنبلة تغييره، محاولين ربط حادثة “بيرل هاربور” بالقنبلتين وهو عذر غير مقنع ومرفوض، لأن الهجوم على “بيرل هاربور” كان في عام 1941، أما التصريح باستخدام الطاقة النووية ضدّ اليابانيين فكان في عام 1945 تحديداً في 25 تموز 1945، بواسطة الرئيس الأمريكي “هاري ترومان”.

ولكن إذا فرضنا جدلاً أن أمريكا قامت باستخدام السلاح النووي للردّ على هجوم “بيرل هاربور”، فإن اليابان عندما هاجمت الولايات المتحدة قامت بضرب عسكريين، خاصة وأن الميناء كان يقدّم المعونات للسوفييت في حربهم ضدّ اليابان عن طريق الصين، وهو أمر مشروع في قوانين الحروب عندما يجري استهداف مصدر قوة العدو، ولكن أن يُردّ على ضربة عسكرية بضربة نووية تستهدف مدنيين، فإن ذلك لا يدلّ إلا على نزعة إجرامية مبنية على فكرة القتل والإبادة الجماعية التي تتّسم بها الثقافة الأمريكية منذ أن أقاموا دولتهم على جماجم أهلها من الهنود الحمر السكان الأصليين الذين فتكوا بهم وأبادوهم. والمفارقة العجيبة أن أمريكا حتى هذا الوقت تشنّ الحروب وتحطّم دولاً وتقتل وتشرّد السكان من أجل 3000 أمريكي قتلوا في تفجيرات مركز التجارة العالمي.

إن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء استخدام أمريكا قنبلتين وليس قنبلة واحدة، هو ببساطة أن المشروع الأمريكي لصناعة القنبلة الذرية كان غير منتهٍ بعد، وكان لا بدّ من تجربته بشكل موسّع، وطبعاً ليس هناك أفضل من المدنيين للتجربة، بدليل ما صرّح به الطيار الذي نفّذ المهمّة عندما قال: “لقد كانت لدينا أحاسيس، ولكن وجب علينا أن نضعها جانباً، علمنا أنها ستقتل العديد من الناس، ولكن اهتمامي الوحيد كان أن أبذل أفضل ما لديّ، حتى نتمكن من إنهاء القتل بأسرع وقت ممكن، والحجج والأعذار الأمريكية ستخلق فيما بعد، وليس هناك مشكلة فالعملية مسألة وقت لا أكثر”.

كان ذلك سبب استخدام النووي من الأساس، أما سبب استخدام قنبلتين وليست واحدة فهو للتجربة، لأن الأولى كانت يورانيوم أما الثانية فكانت بلوتونيوم. أما القرار الرسمي لاستخدام القنبلة الذرية فقد صدر عن الرئيس الأمريكي “ترومان” بالذات، معللاً قلق الأمريكيين على حياتهم خوفاً من غزو ياباني محتمل، وهناك دوافع أخرى بالطبع غير معلنة وهي مهمّة منها استعراض العضلات أمام الاتحاد السوفييتي سابقاً، واستخدام تلك التكنولوجيا الحديثة التي كلفت أكثر من 2 مليار دولار في ذلك الوقت، فكانت بالنسبة لبعض الفيزيائيين أهم من اختراع النار.

إن الأمريكيين مازالوا يدعون للحرية والسلام ويتشدّقون بها بين الشعوب وهم أول من استعمل الأسلحة الذرية في قتل المدنيين الأبرياء في مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، تلك الجريمة الأبشع في تاريخ البشرية التي مرّت دون عقاب أو حتى اعتذار!!.