دراساتصحيفة البعث

لا حاجة للقيادة الأمريكية

عناية ناصر

أصبح فيروس كوفيد 19 إحدى أكبر الأزمات العالمية في الذاكرة الحيّة، ونظراً لطبيعة الأوبئة، فإن التعاون الدولي أمر حتميّ. تقليدياً، لعبت الولايات المتحدة الدور الحاسم في إدارة الأزمات العالمية وتنظيم الاستجابات الدولية، بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية الإيدز، أو تفشي فيروس إيبولا عام 2014. الآن، ولأول مرة منذ عقود، لم يعد بإمكان العالم التطلع إلى واشنطن من أجل القيادة، إن جائحة كوفيد 19 هي أول أزمة عالمية منذ عقود تظهر فيها غياب القيادة الأمريكية تماماً.

لا قيادة أمريكية

كانت القيادة الأمريكية أبعد ما تكون عن الكمال، لكنها كانت حاضرة دائماً لمواجهة التحديات بهذا الحجم العالمي الكبير. ولا يزال من التكهنات تماماً ما إذا كان سيتمّ تذكر COVID-19 على أنه اللحظة التي اختفت فيها القيادة الأمريكية إلى الأبد. لكن ماهو واضح أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب تنازل بالكامل عن الدور القيادي الذي كان ينهض به أسلافه، فبدلاً من تقديم الدعم العالمي وتسهيل التعاون متعدّد الأطراف، أظهر ترامب أنه في مأزق لا يمكنه التعاطي معه، فقد تجاهل التعدّدية، وسعى إلى قطع العلاقات مع منظمة الصحة العالمية، وأساء إدارة ردّ الفعل الأمريكي المحلي على كارثة الوباء. لقد أضاع ترامب، برفضه قبول المساعدة، وقتاً ثميناً بإلقاء اللوم على بكين فيما سمّاه “الفيروس الصيني”، ومواصلته التقليل من خطورة  COVID-19 وقوّض جهود السلطات الصحية للحدّ من انتشار الفيروس عن طريق الإعراب عن الدعم للمتظاهرين الذين احتجوا ضد إجراءات الإغلاق.

التحول الإقليمي

يتطلّب COVID-19 أن تتعاون الدول المترابطة بشكل كبير، عبر توفير المساعدة المتبادلة وتبادل المعلومات وأفضل الممارسات والدروس المستفادة، وتنسيق إغلاق وإعادة فتح الحدود وسلاسل التوريد. وهي في الغالب تقع في المناطق الجغرافية نفسها، حيث يكون هذا التعاون واعداً، لكن كانت المنظمتان الإقليميتان الأكثر تقدماً، الاتحاد الأوروبي والآسيان، بطيئتين في الاستجابة. في البداية، توقف التعاون الإقليمي، وبمجرد أن بدت حدة الأزمة تحوّلت الدول الأعضاء إلى ورشات وطنية في كل دولة على حده. ومع إغلاق الحدود من جانب واحد وحظر التصدير، بدأت ديناميكيات المساعدة الذاتية الوطنية غير المفيدة تتكشف في كلتا المنطقتين. ومع ذلك، استيقظ الاتحاد الأوروبي من شلل أزماته الأولى بتصميم مثير للإعجاب، وبدأت الآسيان في اللحاق بالركب أيضاً.

التضامن في الاتحاد الأوروبي

 قبل COVID-19كان من المستحيل تخيّل مدى الفشل المؤسّسي وغياب التضامن، لكن عودة بروكسل من الشلل لم تكن مثيرة للاستغراب، فقد تمكنت جهود الضغط في الاتحاد الأوروبي من كسر دوامة المساعدة الذاتية السلبية عبر العضوية، حيث جاء أعضاء الاتحاد الأوروبي لمساعدة بعضهم البعض، وتقديم الدعم القنصلي وإعادة مواطني بعضهم البعض، وفتح وحدات العناية المركزة الخاصة بهم إلى مرضى الاتحاد الأوروبي الآخرين وإرسال الفرق والمعدات الطبية عبر الاتحاد.

بدأت مفوضية الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي عدة حزم منح وقروض كبيرة لدعم الشركات والعمال في الاتحاد الأوروبي، وحالياً يناقش المجلس بناء أداة مالية أكبر للاتحاد الأوروبي. وبمجرد الانتهاء من جميع حزم الدعم المالي، سيقوم أعضاء الاتحاد الأوروبي بتوجيه أكبر حزمة تعافٍ على الإطلاق من خلال الاتحاد الأوروبي، بحجم مماثل للناتج المحلي الإجمالي لفرنسا. ولعلّ الأهم بالنسبة لهذا التعاون الإقليمي بحدّ ذاته، على أية حال، هو خارطة الطريق المشتركة للاتحاد الأوروبي لرفع التدابير الوطنية لإدارة الجائحة بطريقة منسقة ومتماسكة. ولاستعادة الثقة في الاتحاد، لا بد من تنسيق رفع القيود الوطنية التي تمّ وضعها على عجل للغاية وبشكل غير منسق، وتصميم مبادئ توجيهية مشتركة لمواجهة الأوبئة في المستقبل. وهذا يقلّل من التأثير الضار على سلاسل التوريد والتجارة وحرية الحركة، ويمكن أن يساعد في التغلّب على الديناميكيات السلبية لتزايد الأحادية، واستعادة الثقة في القيمة المضافة للتعاون الإقليمي بدلاً من الاعتماد على القيادة الأمريكية.

المركزية في الآسيان

 في 14 نيسان 2020، عقدت الآسيان قمة قادة افتراضية خاصة لتطوير إستراتيجية المنطقة لمواجهة COVID-19. سمحت القمة لقادة الآسيان بتبادل الدروس المستفادة وتنسيق استجاباتهم بشكل أفضل، واتفق قادة الآسيان على اتخاذ مجموعة من الإجراءات لمكافحة الفيروس، بما في ذلك افتتاح صندوق مشترك للاستجابة الاقتصادية. ووافقت رابطة أمم جنوب شرق آسيا “الآسيان” على العمل من أجل تبادل المعلومات على نطاق واسع وأفضل الممارسات، وشرعت في حوار بشأن الاستجابات المشتركة عبر الحدود للاحتفاظ بسلاسة وانفتاح طرق التجارة الأساسية لحماية الأمن الغذائي وتبادل المعدات الطبية.

وبتوسيع نهجها متعدّد الأطراف، استضافت الآسيان مؤتمراً بالفيديو مع شركائها من الآسيان زائد ثلاثة: اليابان وكوريا الجنوبية والصين، وجميعهم أطلقوا استجابات منظمة ومتسقة للوباء. وتمكّنت الآسيان من تأسيس مشاركة لشرق آسيا في نهجها متعدّد الأطراف تجاه الأزمة، على سبيل المثال تأمين مساهمة “الآسيان” زائد ثلاثة في صندوق استجابتها. كما اتفق قادة الآسيان زائد ثلاثة على تعزيز تبادل المعلومات في الوقت الحقيقي، وإنشاء مخزون من الإمدادات الطبية في شرق آسيا، والتزموا بضمان التدفق المستمر للسلع والإمدادات الطبية عبر جنوب شرق آسيا، وشدّدوا بشكل خاص على الالتزام بالأمن الغذائي.

لحظة التعاون الإقليمي

يثبتُ الاتحاد الأوروبي والآسيان أيضاً قيمة الشبكات بين الأقاليم، كما يحدث بالفعل مع الاجتماع الوزاري الافتراضي الآسيان– الاتحاد الأوروبي لمواجهة   COVID-19 والدعم المالي من الاتحاد الأوروبي إلى الآسيان، والندوات عبر الإنترنت القادمة حول هذا الموضوع. بالطبع، لا تغطي الآسيان والاتحاد الأوروبي سوى 1.1 مليار شخص، لكنها يمكن أن تقود الطريق للمنظمات المماثلة، مثل “سارك”، حيث يظهر التمديد الإضافي الذي يتجاوز المنطقة المباشرة ليشمل دولاً ثالثة مثل اليابان والصين القيمة الملموسة للدبلوماسية والتعدّدية في أوقات الأزمات.

إذا وضعنا الانتعاش الإقليمي جانباً، فإن هذه الجهود متعدّدة الأطراف تُظهر الطريق إلى الأمام في هذه الأزمة وسط عدم حضور الولايات المتحدة، وهي خريطة طريق لسيناريو مستقبلي محتمل للغياب الدائم للقيادة، ليس فقط لأن الولايات المتحدة كانت غائبة تماماً تقريباً عن المسرح الدولي في هذا الوقت من الأزمة الهائلة، ولكن بسبب دونالد ترامب، بحيث لم يعد أحد يبحث عن قيادة أمريكية!.