دراساتصحيفة البعث

ما الذي تفعله فرنسا في الناتو حتى اليوم؟!

هيفاء علي

يرى محللون فرنسيون أن دبلوماسية انقلاب واحتجاجات إيمانويل ماكرون ضد الناتو تثير القلق  أكثر من السياسة التركية الوقحة في سورية وليبيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط عموماً. وقبل دراسة تطور العلاقة بين فرنسا والناتو من شارل ديغول إلى إيمانويل ماكرون، من الضرورة بمكان التذكير بمبررات هذه المنظمة الدولية التي كان من المفترض أن تختفي مع نهاية الحرب الباردة. إنها أداة أمنية للأوروبيين، وأداة للاستعباد.

فمع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية في أيار 1945، ازداد الشك بين الحلفاء في زمن الحرب. وفي آذار 1946  حث السفير الأمريكي في موسكو جورج كينان واشنطن على “احتواء” توسع روسيا باليقظة والحزم. وفي عام 1947، تميزت “السنة الرهيبة” بدخول “الحرب الباردة” وتعميق الخلافات الأيديولوجية بين موسكو وواشنطن. وفي عام 1948، شهد العالم “انقلاب براغ” ومقاطعة القطاعات الغربية لبرلين. وبالتالي، يشكل العداء بين الشرق والغرب العنصر الأساسي في هيكلة النظام الدولي لفترة ما بعد الحرب. في الغرب تم تنظيم رد الفعل حيث أبرمت بريطانيا وفرنسا معاهدة تحالف ومساعدة متبادلة في 4 آذار 1947 في دونكيرك وامتدت إلى دول البنلوكس الثلاثة (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ) التي أنشأت “الاتحاد الغربي” في بروكسل في 17 آذار 1948. وتتضمن هذه المعاهدة التزاماً بالمساعدة التلقائية في حالة العدوان.

عقدت المفاوضات لأول مرة بين الأنكلو ساكسون، ومن ثم امتدت إلى عدة دول أخرى بين ضفتي الأطلسي. وأدت أخيراً إلى توقيع معاهدة شمال الأطلسي في 4 نيسان 1949 في واشنطن أطرافها هي الدول الخمس لمعاهدة بروكسل، التي انضمت إليها كندا والدانمارك والولايات المتحدة وأيسلندا وإيطاليا والنرويج والبرتغال. وبالتالي شكّلت اثنتا عشرة دولة طليعة الدفاع الغربي ضد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية. على المقلب الآخر، تم تنظيم الرد في الشرق “حلف وارسو”، وهو تحالف عسكري سابق يجمع دول أوروبا الشرقية مع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية في وحدة اقتصادية وسياسية وعسكرية واسعة تم إبرامها في  14 آذار عام 1955. السبب الرئيسي  الذي كان الدافع وراء تشكيل حلف وارسو هو انضمام جمهورية ألمانيا الاتحادية المنخرطة في عملية إعادة التسلح إلى معاهدة شمال الأطلسي وقت التصديق على اتفاقيات باريس في 9 أيار 1955، ثم تم حل حلف وارسو في تموز 1991.

في بداية الحرب الباردة، دعت المنظمة الأطلسية إلى تعاون وثيق بين الولايات المتحدة وكندا والدول الأوروبية في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية. الهدف المعلن، من حيث المبدأ، هو ضمان أمن الدول الأعضاء في الناتو وحماية القيم التي توحدهم.

موقف فرنسا من حلف الناتو

هنا لا ضير من التذكير بمواقف الجنرال ديغول ضد الإمبريالية الأمريكية، ورغبته في عدم الالتزام تلقائياً بالسياسة الخارجية الأمريكية. سداد فرنسا ديونها الأخيرة دفعت الجنرال ديغول إلى التحرر من الوصاية الثقيلة للولايات المتحدة بمغادرة الهيكل العسكري لحلف شمال الأطلنطي في عام 1966، ما أكسب فرنسا قيمة لا تقدر بثمن في العالم الثالث، لكن جاك شيراك بدأ تحركاً نحو التقارب مع التحالف عبر إعادة اللجنة العسكرية. وبينما يفتخر نيكولا ساركوزي بالعودة إلى “العائلة الغربية” من خلال انضمامه في عام 2009 إلى الهيكل العسكري المتكامل، الذي ترك عام 1966 لإثبات الاستقلالية عن واشنطن، يشكك تقرير “فيدرين” في هذه العودة التي صاحبها ظهور تيار المحافظين الجدد في مقر وزارة الخارجية وانتشاره داخل أعلى دوائر الدولة. الآن من الواضح أن أصغر رئيس للجمهورية الخامسة، إيمانويل ماكرون، مستاء كثيراً لكنه لم ينجح على الأقل في كسب أصوات شركائه الأوروبيين الذين يفكرون فقط في حلف شمال الأطلسي من أجل أمنهم. كما أن افتقاره إلى الإستراتيجية أقصت شركاءه الأوربيين ما آل في نهاية الأمر إلى نهاية عمليته الساحرة التي أطلقها في بداية فترة ولايته مع دونالد ترامب.

لذلك من الضرورة اتخاذ الخيار الحاسم للتغلب على الغموض الذي يؤدي إلى مأزق دبلوماسي وأمني مثل الذي تمر به فرنسا حالياً، إذ لا يمكن اتخاذ أي قرار منطقي ومعقول بشأن مستقبل مشاركتها في التحالف الأطلسي دون الأخذ بعين الاعتبار المشاكل التي تعوق عمله العادي ذلك أن الناتو يجد نفسه في وضع غير مريح بسبب الجمع بين عاملين مهمين: الوضع الهيكلي الأمريكي، والوضع الاقتصادي التركي.

بادئ ذي بدأ العالم في قبضة مؤسسة أمريكية منهجية تسعى لتفكيك النظام المتعدد الأطراف الذي ولد عام 1945. بالأمس جاء دور منظمة التجارة العالمية لتقع تحت رحمة دونالد ترامب، ثم جاء دور منظمة الصحة العالمية ليصب جام غضبه عليها، ذلك أن الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة لا يتحمل أي مؤسسة لا يتحمل أعضاؤها العبء المالي، وخاصة ألمانيا.

ثم هناك  مشكلة تركيا رجب طيب أردوغان، إلى جانب المشكلة الأمريكية، فهي حليف غير موثوق به. ففي تحد للتضامن الأطلسي، حصل الأتراك على أنظمة مضادة للصواريخ الروسية S-400، مما أثار غضب واشنطن، التي تطالب أنقرة بالتخلي عنها من أجل المطالبة بشراء طائرات مقاتلة سو 35. وفي سورية، كان لها دور كبير في إضرام نيران الحرب، ودعم التنظيمات الإرهابية، واليوم ينخرط النظام التركي في الحرب الليبية من خلال إرسال الإرهابيين السوريين إليها مع المعدات والمدرعات، في انتهاك صارخ لحظر الأمم المتحدة الذي يفترض أن يسيطر عليه حلف شمال الأطلسي. زيادةً على ذلك، أقدم نظام أردوغان على تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد لتكون هذه الخطوة تتويجا لعملياته الاستفزازية، دون أن يحرك الغرب ساكناً، حيث يوظف أردوغان مسألة تدفق الهجرة للحصول على ما يريد من الاتحاد الأوربي، فيما تظل ألمانيا صامتة بعد كل هذه الاستفزازات. باختصار، أنقرة  مدفوعة بحمى الحنين إلى عثمانية جديدة تفعل ما تراه مناسباً لتنفيذ مصالحها ومآربها العثمانية. تجدر الإشارة إلى أن العلاقات الفرنسية التركية تدهورت منذ العام الماضي، و بلغت ذروتها مع قضية كوربيه حيث اتهمت فرنسا تركيا بالتحرش بالفرقاطة “كوربيه” في شرق البحر المتوسط عندما قامت زوارق تركية باستهدافها. ومن المحتمل أن يترتب على فشل الناتو في الاستجابة لمطلب فرنسا بإدانة تركيا بتهمة الاتجار بالأسلحة في ليبيا عواقب كبيرة.

خلاصة القول

منذ تشرين الثاني 2019، ما الذي حققه  إيمانويل ماكرون من تشخيصه لحلف الناتو “المتوفى دماغياً” باستثناء الضجة الإعلامية؟ لا شيء باستثناء عدد قليل من الصخب. أقل ما يمكن قوله هو أنه لا أحد من حلفائه الجبناء في الاتحاد الأوروبي المتمسكين بالدفاع الأمريكي ولا يريدون أن يسمعوا شيء عن الدفاع الأوروبي، يؤيده في ذلك. فيما يتعلق بهذه القضية، كما هو الحال في العديد من القضايا الأخرى، فإن فرنسا معزولة وهي تغرد خارج السرب.

إذن ما مبرر موقف فرنسا إزاء هذا البقاء في حلف الناتو حتى اليوم؟ ايمانويل ماكرون ليس الرجل الذي يحسم الأمر كما فعل الجنرال شارل ديغول بشجاعة عندما غادر الهيكل المتكامل لحلف الأطلسي عام 1966.