مجلة البعث الأسبوعية

حلب المشرقة من البرزخ

غالية خوجة

هل كان الوقت متجمداً في أعصابي إلى درجة هذا الأفق الغامض؟ أم أنني أنجبتُ للوقت أوقاتاً مشرقة؟

تساءلتْ قلعة حلب الشامخة في البرزخ، وأكملت مع المتنبي: “حلب أنت قصدنا والسبيل”.

صوت القلعة توءم صوت أمي، لذلك هو زمرة دمي التي ستظل مشرقة من البرزخ لتزرع أرواح الشهداء مثل الانتصارات في الأزمنة الغرائبية والاغترابية والوحشية والواقعية والافتراضية، ولن نحيد عن مستقبلنا ما دامت أبجديتنا تعلّم العالم الحضارة والإنسانية.

لم تغترب القلعة، ولم تغترب روحي، وكل ما فينا ينبض بوطننا الأمّ سورية الحبيبة وهي تشمخ بانتصاراتها المتوالية على التدمير والتخريب والحروب والخيانات والقوانين الحصارية الوحشية. وأينما استدرت أشرق وجهها مع وجه قائدها وشهدائها وجيشها وشعبها الطيب المتجذر مثل حجارها وأشجارها وسمائها وقمرها ونجومها ولغتها الأولى.

لم أنم بطمأنينة منذ قرون، هكذا بدت ملامحي هناك، ولكن السلام اتضح أكثر حينما حملتُ ملامحي وعدتُ أبداً لأستنشق الوميض القادم، والزمن الآتي.

لا أعرف كم مرّ من الأحزان والشهداء والدمار على لحظة الانفجار الأول منذ بدأت حربهم علينا، لكنني أعرف أن الضوء الأرجواني في آخر النفق سيضيء الأزلية والأبدية. وكان أن اتسع الوميض وهطلت الأسئلة مثل يقين الأجوبة ياسميناً في كل مكان.

لم يكن العالم يدرك أننا كلما تلفظنا باسم سورية هطل الياسمين وفاض في البحار والمحيطات والأرواح والجراح والصحارى واللغات، وفاح نقاؤه مع كل حركة هواء، معطراً الكرة الأرضية وشاشاتها الافتراضية.

الياسمين أسطورة قديمة روتها وما زالت ترويها رقيمات المكتبات بين أوغاريت وإيبلا وتدمر ومعلولا وقلعة دمشق وقلعة حلب.

آهٍ، أيتها القلعة، ما زلت ياسمينة غير مرئية بين حجارتك وألوان سمائك، أتابع القادمين إليك من مختلف ول العالم، لأراهم مدهوشين من عراقتك، وتاريخك، وحضورك في الزمن القادم، وهو يردد: “حلب في عيوني”. الله، ما أجمل وأعمق عيونك سيادة الرئيس، خصوصاً وأننا نرى فيهما سماء سورية وياسمينها وجذورها العتيقة وأرواح شهدائها المعتقة بالنصر.

هل ما زال الوقت متجمداً؟

ذاب الوقت وانصهرت الأزمنة، وكل شيء تكاشفَ مع كل شيء، وتلاشت الظلمات والظلام، ولم يترسب في أعماق الوطن سوى الأرواح الطاهرة، وبينها روح أبي المطل بملامحه من المقبرة.

منذ أربعين عاماً وأبي يدعو لنا من بيته الأخير، ومنذ أكثر من تسعين عاماً وأمّي تروي لنا صمودها على المحن والحروب، فلا الحرب العالمية الأولى بقيت، ولا الثانية، ولن تبقى أية حرب على هذه الأرض.

لكنني لماذا كلما نظرت إلى أمي وجدت أطرافها لا تتحرك، وعيناها لا تريان، وعقلها اختطفه “الزهايمر”، والظلم ما زال عاطباً لقلبها، بينما إرادة الحياة ما زالت باقية مثل شمس ستشرق، دائماً، غداً؟

لم تعد الاحتمالات تحتمل احتمالاتنا، لأن الوقت يضيق وأرواحنا تتسع.

ربما، سيعلم أولادنا أننا أصبحنا أشلاء، ثم أنحاء، ثم عدنا إلى أجسادنا بعدما عبرتْ أرواحنا اللهب، أو بعدما تغنت أحزاننا بالقصب، أو ربما، لن يعلم الآتي كم مرّ على الحاضر من ماضٍ يئنّ، لكنه استعاد تكويناته، وأحرق الوقت، وجعل أحلامنا أجنحة للريح والنار والتراب والماء والهواء، لعلها تكتمل العناصر مع اكتمال الوطن بدراً، أو لعلها تنزح المفردات المؤلمة عن ملامحنا، لنعيد البراءة إلى الكون ونحصد الموسيقى.