الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ماء الانكسار

سلوى عباس

حالة اغتراب موجعة كثيراً أعيشها، ليس لأنّني فقدت إحساسي بالطمأنينة والسلام، ولا لأنَّ ذاكرتي مثقلة بالوجع، حالة لا أدرك كنهها، أشعر أنني لست أنا، مرهونة أحاسيسي للحزن، أرى نفسي وحيدة في اتساع الدنيا، تنهش الوحشة روحي، وتملأ مرارتها عروقي، ربّما لفقداني أناساً يشبهونني، يرحلون تباعاً، عشت معهم زمناً كان الأجمل بكل ما فيه، أصدقاء وأحبة بالأمس القريب كانت أحاديثهم وضحكاتهم تتردّد في أرجاء المكان، وفي غفلة منّا يغادرون دون أن يمنحونا فسحة نهيئ أنفسنا لحزن يليق بهم، وتصبح تفاصيل الأمس ذكرى نردّدها في وجداننا، مع كل غياب.. ينسحبون من حياتنا، ويتركونا أسرى زمن ناسه شكلتهم الحياة من صلصال استهلاكها، يفتقدون للتصالح مع أنفسهم وقيمهم التي يوظفونها بما يخدم مصالحهم وغاياتهم، ضاربين عرض الحائط كل شيء..

إلى أي مدى يودي بنا هذا الموت؟ وإلى أي اتساعات من فراغ ووحشة يرمينا؟ ما الذي تخبئه حروفه التي تشكل جرفاً يطل على هاوية، كل لحظة يرسم لنا موعداً معه، تباغتنا فجيعته من حيث لم تنته التي قبلها، فتغلق الحروف امتداداتها، ويبدو اتساع البياض في الورق عصياً على القلم أن يرتاح في مداه.. أجمع بوحي في كفي حفنة من ماء الانكسار يتسرب من بين أصابع القلب كما الضوء يشع راشحاً في الأرض إلى أن أفتح عيني على ظلام فأرمي بستار من خيبة الرماد على قمر يرعى مروجي، تتملكني سكينة تخمد عنبر الروح، كيف يستطيع الموت أن يطفئ إنسان من حب وحياة، وكيف يرمي شمسه على عري نباته فييبّس النسغ في روحه.. هل كان يعوزنا كل هذا الرحيل لتكتمل أحزاننا، ويتلاشى عن شفاهنا ما تبقى من ابتسامات، وننوء بثقل أحمالنا، ونكتشف خواءنا.

يبدو أنَّ الحياة هكذا، تبعثرنا، تفتّت أجسادَنا وأمانينا، لا نعرف متى جمعتنا وشكّلتنا أهلاً وأصدقاء وأحبةً، وكما جمعتنا تفرّقنا لنرى أنفسنا على مفترق الغياب، فكيفما أتجه يرافقني وهمُ أنَّ من فارقوني على مرمى دقّتي قلب أو على مرمى كلمة يقع نظري عليها وأنا أتصفّح صفحتي “الافتراضية” التي يزداد فيها عددُ الراحلين يوماً بعد يوم، أقرؤهم من خلال ما كتبوا، فأشعرُ وكأنّهم الآن يتحدثون، فأستسلم لوهم أن يرموا لي بباقة من ياسمينهم، لكنّهم يتوارون خلف جدار بارد بعيد، وتبقى مرارة السؤال: لماذا كلما حاولنا النهوض من أحزاننا وفكّرنا أن نرسم لقلوبنا فضاءات تحمينا من غدر الزمن وتجمعنا مع أشخاص مازالوا يفتحون في الحياة نوافذ تطل على الأمل، نرى أنفسنا في دهشة الرحيل تائهون؟، فمن يلم هذه المشاعر التي أطبقت على الأفق، وهذه الاشتياقات التي تضيء السماء، ووسط مشاعر وأحاسيس الألم التي تعاند اللحظة؟، أقول لكل من فارقونا: هل استعجلتم الغياب لتبحثوا عن حياة تليق بأرواحكم بعيداً عن كل حصارات الحياة والآلام التي لم تحتملها أرواحكم ليكون الرحيل أمّرُ الخيارات وأكثرها قسوة؟