دراساتصحيفة البعث

محاولة ماكرون اليائسة لإبقاء لبنان تحت الوصاية

هيفاء علي

لقي أكثر من 150 شخصاً مصرعهم وأُصيب آلاف آخرون في انفجار مدمّر في مرفأ العاصمة بيروت. ومع تنامي الغضب على الحكومات اللبنانية المتعاقبة، الغضب الذي تتلاعب به السفارات الغربية وقواتها الموالية، استقال في البداية ثلاثة وزراء وتسعة نواب، ومن ثم استقالت حكومة حسين دياب، واقتحمت حشود من المتظاهرين الغاضبين المباني الحكومية، في محاولة واضحة لتدمير سجلات الفساد، لكن لن يكون فراغ السلطة بالتأكيد في مصلحة بلد منكوب.

وسرعان ما ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنفسه في هذه المعركة، وقاد مؤتمر المانحين وتسييس الدراما، موضحاً أهدافه “السامية” قائلاً: إن مستقبل لبنان يتقرّر الآن، مضيفاً أن أموال المساعدات ستوزع “بسرعة وكفاءة” وسيصاحبها تحقيق محايد في الانفجار!.

في البداية دعا ماكرون إلى تحقيق دولي، رفضه الرئيس اللبناني بشكل قاطع باعتباره مناورة تأخير وتسييس، ثم دعا ماكرون الحكومة للاستجابة لمطالب المتظاهرين في بيروت، وقال إن مستقبل لبنان سيقرّره “لبنان نفسه”، ولكن يبدو أن الزعيم الفرنسي رأى أنه من المناسب التدخل في عملية صنع القرار هذه، على الرغم من أن الغبار لم يهدأ بعد في بيروت.

كان ماكرون قد وصل بعد يومين إلى المدينة التي دمّرها الانفجار، وتحدث إلى المتظاهرين في الشارع الذين هتفوا بـ”ثورة”. وبينما كان الحشد يطلب المساعدة من الرئيس الفرنسي، قدم ماكرون وعداً واضحاً: “صفقة سياسية” جديدة لقادة البلاد الذين يواجهون وضعاً صعباً، وقال إنه في حال فشل الصفقة، سيعود في أيلول  لتحمّل “المسؤولية السياسية” بنفسه!!.

يبدو أن تعطّش ماكرون للتغيير تجاوز التصريحات الغامضة، فإضافة إلى الدعوة إلى “نظام سياسي” جديد في لبنان، دعا إلى مراجعة البنك المركزي للبلاد، ودعا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة للإشراف على تعافي البلاد.

إن اهتمام الرئيس الفرنسي ببناء الأمة لا يأتي من فراغ، إذ كان لبنان ذات يوم محمية من قبل فرنسا، ووضع تحت الانتداب الفرنسي بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، قبل منح الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، فإن مناشدة ماكرون لـ”المجتمع الدولي” والمؤسسات المالية غير الوطنية في العالم تشير إلى أنه لا يرى مستقبل لبنان على أنه تابع لفرنسا، بل عميل سهل الانقياد للنظام العالمي الليبرالي. ومن المحتمل أيضاً أن تكون محاولة ماكرون إعادة لبنان إلى حظيرة الغرب هي منع توجّه لبنان “شرقاً” التي دعا إليها السيد حسن نصر الله في وقت سابق من هذا العام للبلاد.

بعد وقت قصير من إعلان المانحين تعهداتهم الأخيرة بالمساعدات، والتي بلغت نحو 253 مليون يورو، نزل المتظاهرون إلى ساحة البرلمان في بيروت، حيث ألقوا الحجارة على الشرطة وقتل ضابط، وحاولوا هدم الحواجز التي كانت تمنع الوصول إلى البرلمان. ردّت الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع وأخمدت حرائق المتظاهرين وطردتهم من عدة وزارات احتلوها ونهبوا محتوياتها.

ووسط هذا التحول الجيوسياسي، ألقت الولايات المتحدة بثقلها وراء المحتجين، وذكر بيان للبيت الأبيض أن الرئيس دونالد ترامب “اعترف بالدعوات المشروعة للمتظاهرين السلميين من أجل الشفافية والإصلاح والمساءلة”. في 8 آب، شجعت السفارة الأمريكية في لبنان المتظاهرين من خلال تغريدة: “لقد عانى الشعب اللبناني كثيراً ويستحق أن يكون لديه قادة يستمعون إليهم ويغيّرون المسار للاستجابة للمطالب الشعبية بالشفافية والمساءلة.. نحن ندعمهم حقهم في التظاهر السلمي ونشجع جميع الأطراف المعنية على الامتناع عن العنف”.

لكن عندما سارع ماكرون إلى لبنان وقدّم دعمه للاحتجاجات المناهضة للحكومة في بلد على بعد آلاف الأميال، سخرت منه الصحافة الفرنسية، وهو الذي يزجّ برجال الشرطة إلى ساحات مظاهرات السترات الصفراء التي تشهدها البلاد كل سبت، لقمعها وتفريق المتظاهرين بالغاز والهراوات، ضارباً بعرض الحائط مطالب السترات الصفراء المحقّة!.