الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أرجوكم توقفوا!؟

د. نهلة عيسى

أريد أن أعترف لكم بسر صغير، أنا لست سجينة الحزن، والوجع كما يبدو للبعض، وشطآني ليست مقابر جماعية لأصداف الحرقة المالحة، وبالتأكيد.. فصول السخط والضجر والأنين ليست عنوان إقامتي الدائمة، فالحزن أمان، واليأس أمان، وأنا كما تؤكد جميع تقاريري الطبية لا يناسبني الأمان!؟ ولذلك فأنا في واقع الحال، ساكنة شبه مستقرة في مدينة “الدهشة”، وهي وحدها من تستولي على مفاتيح أبواب روحي، ودهاليزي، وسراديبي، ووحدها من أمنحها ذاتي دون مساومة، أو تحفظ، أو خوف، ودون أقنعة، أو مواعيد مؤجلة، لأن الدهشة مثل الحب لا تقرع الباب، ولا تعلن عن وصولها، ولا موعد مغادرتها!؟. ولهذا فعلاقتي بكل ما أفعله، سواء كان عملاً، أو كتابة، أو نشاطاً عاماً، أو إجازة، أو حتى غضباً!؟ هي علاقة تماهي، علاقة حب شرسة، أعيش فيها مع كل ما أقوم به بالحد الأقصى، دون أي تقنين، حيث أراقص الكلمات، وأسهر وأثرثر مع الأفكار، وألتحف بالغضب والقلق، وأتشاجر مع كل ما أظنه خطأ، وأسعف الفرح – ما استطعت – إلى غرف الطوارئ، وأبكي على الورد إذا انكسر، ثم أركب القطارات مع كل جديد، هرباً من وتد، خاصة أن بلادنا الحزينة، أسيرة العواصف لا تملك حبالاً للنجاة، ولا ترمي للمستغيث سوى اليأس.. وتداً!؟.

ولأن الأعاصير، تبدو في بلادنا قدراً، فعيشنا بات أشبه بشبكة الكلمات المتقاطعة، نلملم فيها حروفنا، والأصح أشلاءنا من مسارات مختلفة، ولذلك يجن جنوني، وأظنكم مثلي، عندما يجبرني أحد على الاعتياد على السواد، أو عندما يقول لي أحد: افعلي أو لا تفعلي ذلك، قولي أو لا تقولي كذا، قومي أو لا تقومي بهذا، اصبري، اهدئي!! لأني أشعر وكأنه يطلب مني ارتداء “السواريه”، أو الأكل بالشوكة والسكين وأنا في قلب الإعصار، أو يريد كبحي وتزييفي وتسويري داخل تمثيليات اجتماعية ممجوجة، مملة، مضجرة، ولا أظنها مقنعة لا للجمهور، ولا حتى الممثلين، فقط ليقال عني واعية، عاقلة!؟ أنا التي لطالما كانت كلماتي هي صراخي، ولطالما مزقت كل قفاز صنع ليدي، لتبقى أصابعي تشير إلى ما أعني، مهما كان جارحاً وفظاً، ما دام يعبر حقاً عما أعني!؟.

أجن، وأظنكم مثلي، لأن حياتنا لا يليق بها سوى الغضب، ولم تعد تحتمل المزيد من الكذب، وألم الصدق مهما عظم، أقل بكثير من ألم الزيف، وألم ادعاء التجلد والحكمة، وسط عالم لا ينفع معه حسن النية، فالرب وهو الجبار، والرحمن والرحيم، يغضب، ويهدد ويتوعد، ويحب ويكره، ويعاقب ويمنح، فلماذا مطلوب منا نحن البشر أن نكون آلهة، ولماذا يغضب من يطالبوننا بالكمال، عندما نقول لهم: أرجوكم توقفوا، نحن لا نحب أن نكتمل، نحن جزر غير مكتشفة، ونوافذ تطل كل يوم على صور جديدة، بعضها بالأسود والأبيض، وبعضها ملونة، وأخرى ممزقة، وهكذا نعيش، ننتقل بين الفراشة والشرنقة، دون أن نتهم أحداً لأن عمرنا قصير!؟.

أجن، وأظنكم مثلي، أننا مطالبون بالبرود المحايد، وبأن نكون صخرة لا مبالاة، ونحن نفقد أنفسنا ونربح الجروح، مطالبون بأن نبتسم ونحن سكان أرصفة الرحيل، بل نحن الرحيل، وبطاقة السفر، والحقيبة، وهدير الطائرات، وغربة صالات الترانزيت، وجراح الفراق، وذاك الوطن الذي كان يجب أن يكون لنا، وسرقه اللصوص، وأوهمونا أنهم يخبئونه لنا في مآقي العيون!؟.

أجن، وأظنكم مثلي، وأنا أرى الفاسق فينا يحاضر بالعفة، والكاذب بالصدق، والمتخم يحاضر بقدسية الكفاف، وأعود لأؤكد أنني أكره أن يرغمني أحد على اعتياد السواد، وعلى المرآة المرشوقة في الحائط، وفرشاة الأسنان فوق المغسلة، وقميص النوم على السرير، ووجوه من يقصون أجنحتنا بحجة الصمود تسد كل شقوق النور، أكره كل ذلك وأعشق الغضب، وأنتمي إلى مدينة الدهشة، لأنهما وحدهما من يجعلونني قادرة على الدفاع عن وطن.