ثقافةصحيفة البعث

المعنى والنسق الثقافي

محمد راتب الحلاق

الثقافة السائدة في مجتمع ما تشكّل الإطار المرجعي لإنتاج المعنى الذي تتضمنه النصوص، بما فيها النصوص الإبداعية، فالكلمات ليست مجرد دوال حيادية، وإنما تستمد دلالاتها من السياق الاجتماعي والثقافي الذي أنتجت فيه، والذي تستخدم فيه، والذي يتم تلقيها فيه، حيث تتعدد دلالات العبارة الواحدة باختلاف النسق الثقافي السائد. ‏

وفي ظل ثقافة السوق التي يروّجها نمط من المثقفين في دول الشمال، ومقلدوهم في الأماكن الأخرى، عبر وسائل الإعلام والإعلان المقتدرة، التي تعمل في خدمة مموّليها من الحكومات والشركات عابرة القارات، تجري محاولات حثيثة لتشكيل مدارك البشر كما تريد تلك الحكومات والشركات، بقصد توحيد الدلالات عند الجميع، لينتج النص الواحد معنى واحداً في السياقات كافة، ضمن عملية ممنهجة لتنميط البشر، وتدمير قيم الشعوب، وتقويض هوياتها، حتى تستسلم (لقدرها العولمي). ‏

وقد لقيت هذه الثقافة، التي يروّجها أصحاب نظريات نهاية التاريخ وصدام الحضارات وتصنيف البشر إلى أخيار وأشرار، مقاومة من نمط آخر من المثقفين، في دول الشمال ودول الجنوب في آن معاً؟ ففي دول الشمال قام مثقفو اليسار بالوقوف في وجه ثقافة العولمة، نظراً لخطورتها ولاإنسانيتها، شرط أن نفهم مصطلح (اليسار) هنا ضمن إطار فضفاض جداً، يشمل معارضي ثقافة اقتصاد السوق جميعاً، بوصفها ثقافة متوحشة، ذات نزعات نهمة لالتهام ثقافات الشعوب، وتعميم ثقافة النمط الواحد، أعني ثقافة (الكاوبوي)، التي يظن أرباب العولمة أنها ثقافة الإنسان الأخير حسب (فوكوياما)، ومازال هؤلاء قلة من رواد المنتديات الثقافية غير الفاعلين، وفي دول الجنوب وقف المثقفون القوميون ومعظم مثقفي اليسار في وجه ثقافة العولمة، نظراً لخطورتها الشديدة على الهوية وعلى الوجود المتمايز، وقد أشار النقد الثقافي إلى أن كل حضارة تتكون من جملة من الأنساق الثقافية شبه المستقرة، على الناقد أن يتمكن منها ليحسن التعامل مع النصوص، ويحاول هذا النقد أن يبني سداً من القيم الثقافية والإنسانية يحول دون طغيان ثقافة السوق. ‏

الذي يهمنا هنا هو شغل النقد الثقافي على النصوص الأدبية والإبداعية، والمقولة المحورية في هذا النقد، في حدود فهمي على الأقل، تقوم على الربط بين دلالة العلامة (معنى الكلمة)، والسياق الثقافي الذي يتم فيه تداول تلك العلامة، أي أن النص، خصوصاً الإبداعي، لا يعطي المعنى ذاته إلا ضمن النسق الثقافي ذاته. ‏

فمعنى النص لا ينتج، إذاً، عن المعنى المعجمي للألفاظ التي اقترحها منتج النص، حتى وإن أراد ذلك، وإنما ينتج عن تقدير المتلقي وطريقة فهمه للأمور ضمن الأنساق الثقافية التي يعيش فيها، والتي شكّلت فلسفته في الحياة، وأحاطته بالعقائد التي يؤمن بها، وأثرت باهتماماته الفردية، وبتجاربه الذاتية، وتقديره الشخصي. ‏

وكمثال طريف على أثر النسق الثقافي الذي تم فيه إنتاج النص في إنشاء المعنى وفهم النصوص والرسائل الإعلامية، ما جرى في إحدى القرى الأفريقية، حين أرادت بعثة صحية أن تبيّن مدى خطورة حشرة القمل على صحة الإنسان، وما تسببه من أمراض خطيرة، لاسيما مرض التيفوس، فقامت بعرض شريط سينمائي لحياة هذه الحشرة، بعد أن تم تكبيرها عشرات المرات، باستخدام التقنيات الخاصة بذلك، بقصد توضيح آلية عملها، الأمر الذي جعل رأس الحشرة يبدو كرأس بقرة؟ فما كان من القرويين بعد انتهاء العرض إلا أن حمدوا الله وشكروه لأن القمل الذي يعرفونه صغير؟ وهكذا أخفقت الرسالة لأنها فسرت ضمن سياق ثقافي مختلف.